أكتشف ضمن محاولاتي لتشخيص أسباب وأعراض تدهور حياتنا وعقولنا وحوارات أيامنا ومجالسنا أن لدينا كليشيهات لفظية جاهزة نفكر من خلالها، ونقرأ وندرك الكلمات والأحداث والأشياء من منظورها، ولذلك يأتي إدراكنا شديد التشوه، ويبدو تفكيرنا ـ وقليلا ما نفكر أصلا ـ عاجزا ومحدودا، وتضيع فرص التغيير في هذا المناخ البائس!!
وبحسبة بسيطة أو دراسة سهلة لا تكلفك جهدا يمكن رصد هذه الكليشيهات التي تظهر في صورة إخبارية أحيانا، أو في صورة أسئلة حوارية أحيانا أخرى، وطبعا في صورة إجابات جاهزة لأسئلة جاهزة، وتعليقات جاهزة على أخبار ومستجدات تم رصدها وإدراكها وصياغة مفرداتها من منطلق نفس القوالب الجاهزة!!
ومن نتائج هذا أن نجد حواراتنا بل حياتنا كلها عبارة عن إعادة إنتاج لنفس الكلام باستمرار: نفس المقولات، ونفس الأسئلة، ونفس الإجابات، ونفس التوصيفات للعلل ونفس وصفات العلاج، ورؤية خرائط المشكلات، وفي البرمجة اللغوية العصبية سمعت صياغة لبديهية عملية وهي أن ثبات المقدمات سيصل بنا حتما إلى نفس النتائج، مهما صلحت النوايا!! ومهما تفاءلنا أو انتظرنا شيئا مختلفا، أو توقعنا أن يحدث تغيير في الأحوال، رغم أنه للأسف لا ولن تتغير النتائج إلا إذا تغيرت المقدمات:
"إن الله لا يغير ما بقوم"... نتائج وأحوال...
"حتى يغيروا ما بأنفسهم"... مقدمات ومعطيات
"المصريون صاروا عديمو الانتماء"
كليشيه سهل ولذيذ ولبانة نمضغها باستمرار في حوارات التخازن والشكوى والأسى والرثاء على الأحوال بدلا من فهم حقيقي لما يجري، ونقد حقيقي له، وبحث عن جذوره، وتتبع مساراته وتحولاته، والحوار لاستكشاف منابعه ومصادره وإمكانيات مواجهته وعلاجه!!
إنما التردد والترنح ما بين الدفاع الطفولي عن الذات الجريحة التي تشعر بالتهديد الدائم وتلتمس الأمان في الكذب المفضوح وتزوير الحقائق، وبين الهجوم والعدوان على الذات بكليشهيات خائبة سابقة التجهيز من قبيل "عدم الانتماء"، هكذا دون مراجعة ولا تمحيص، ولا نقد ولا تحليل، وسحقا للعقل إذا كان سيتعبنا في التفكير والتدقيق!!!
ومرحبا بالكليشيهات المريحة ومضغ اللبان لتمضية الوقت.
هل المصريون عديمو الانتماء؟!
لماذا ينطلق هذا الكليشيه أصلا؟! وإلى أي شيء يستند؟!
هل لأن المصريون يهاجرون أفرادا وجماعات؟!
ويهربون مما يرونه حولهم من انهيار متزايد؟!
وما هو المطلوب من الإنسان حين يعيش في وطن لا يجد فيه لنفسه كرامة ولا... حقا، بل وربما وجد حياته مهددة، وأمنه مهددا لأنه بهائي، أو لأنه إخوان مسلمين؟!!
ما المطلوب من إنسان تربى على أن "معاك قرش... تساوي قرش"؟!
أي أن قيمة كل إنسان بما يملك، وليس بما يعرف ويحسن، أو يعمل ويتقن؟!
ما المطلوب أو المتوقع من إنسان تم تشويه عقله، وقتل بوادر الابتكار والإبداع والنقد لديه، بل وتلقى العقاب تباعا على كل محاولات الاعتراض من أجل التغيير إلى الأفضل، أو إصلاح ما فسد؟!
ما المنتظر من إنسان تم تخريب وتجريف ذاكرته الشخصية والوطنية، وبالتالي لم يعد فيها مكان لرموز تدعو للفخر، أو أحداث ملهمة، أو انتصارات مجيدة، أو إنجازات تستحق الإشادة والاعتزاز؟!
ما المنتظر من إنسان مخنوق بالأمن المركزي، وتقاليد اجتماعية بائدة وبالية، وحرمان من أبسط حقوقه ومباهج الحياة المشروعة: لا زواج ميسر، ولا علاج من مرض، ولا غذاء صحي نظيف آمن، ولا تعليم ولا ترفيه، ولا مساحة معقولة للحرية والحركة كبشر، وكما يعيش البشر؟!
إنسان فوق رأسه ألف سلطة وسلطان، وألف كاهن وكهنوت، وتحيطه الفوضى العارمة، والعشوائية المتراكمة كنمط ممارسة وتفكير وحياة؟!
وهو بحكم تكوينه المتواضع في معارفه ومهاراته وخبراته يرى كل هذه المشكلات قدرا مقدورا يستدعى الصبر على البلاء، وليس إعمال الفكر، وشخذ الهمم، والتعاون مع آخرين في دفع هذا البلاء؟!
ماذا يفعل أي إنسان حين يرى نفسه محاطا بهذا المناخ الذي وقر في عقله وقلبه أنه عاجز جدا في مواجهته فضلا عن فهمه وتغييره؟!!
ما المنتظر من إنسان تصله كل ثانية رسائل ووعود وأنباء وأفكار مزخرفة وساذجة ومختصرة مشوهة جدا عن جنة الغرب، وعن رغد العيش فيه، بينما يعيش جحيما الفوضى والانتهاك والحرمان والتخلف بشتى صوره؟!!
ما المتوقع من إنسان يعرف بأن الماء الذي يشربه مشكوك في صلاحيته، والزرع مرشوش بمبيدات مسرطنة، وأكياس الدم فاسدة، وطعامه كله لا أحد يكشف عليه أو يراقب سلامته، ويسمع ويرى التصاعد الرهيب لمعدلات الإصابة بالكبدي الوبائي، والفشل الكلوي، والأورام السرطانية، والأوجاع النفسية ليشعر وكأنه قد صار يعيش في مستعمرة كبرى للمرض أو مثل خط مرسوم في لوحة سريالية عبثية سوداء!!!
ما المنتظر من الإنسان حين يجد حوله أجهزة دولة تهرب من أداء أدوارها في خدمته، أو تطلب مالا في سبيل كل خطوة وكل خدمة، رغم أنه يدفع الضرائب والرسوم دون تأخر؟!!!
ماذا نتوقع ممن ينظر حوله فيجد مجتمعنا منهكا مفكك الأوصال يشتبك بعضه مع بعضه دون أفق الوصول إلى هدف أو جدوى أو معنى؟!!
وماذا نرجو من أفراد لم تعد أسرهم قادرة على أن تقدم لهم الرعاية ولا الأمان لأن الأغلبية صارت تفتقد للرعاية والأمان، وفاقد الشيء لا يعطيه!!!
ما المطلوب من إنسان لا يجد رصيفا يسير عليه، ولا دواءا في مستشفى، ولا تعليما لائقا في مدرسة أو جامعة، ولا خدمة عامة من موظف حين يحتاجها؟!
وماذا يفعل من نشأ يسمع أكاذيب حكامه، وعاش عمره يصبر ويسخر فلا هم يرحلون، ولا تيجي مصيبة تشيلهم!!!
ماذا يفعل من لا يعرف للإصلاح منهجا ولا طريقة ولا بدايات إقلاع في هذا الواقع المضطرب، وتلك الأهوال والمهلكات، ولا يرى لبلاده مخرجا منها فينتقد نفسه بالبحث عن ملاذ آمن، وحفظ النفس مقدم في الشرع على حفظ الدين، فما بالنا بالوطن؟!!
لا يعيش إنسان في أرض دون حب يربطه بأهلها، ولا جذور تربطه بها ذهنيا وبيولوجيا، وإنسانيا وماديا!!!
لن يبقى المصري ليناضل في هذه الظروف إلا إذا وجد دعما ومساندة، وأعاد له أحد أو استعاد هو ذاكرته المفقودة، وإرادته الهاربة، وثقته بنفسه وبقدراته على الفعل، وامتلك مهارات الفهم لما يجري حوله: من أين جاء، وكيف يتشابك، ولماذا ينبغي أن يساهم في تغييره مقيما كان أو مسافرا!!
الإيمان بالوطن والمستقبل والقدرة على التغيير، هو فرع عن الإيمان الحقيقي بالله سبحانه، وإيماننا فيه دخن كثير، وهو مزعزع لا يصمد بأصحابه في مواجهة هذه الرياح، ونحتاج إلى تجديد الإيمان الحقيقي، وبعث العقل المريض وعلاجه، واكتساب مهارات العيش بكرامة، وهذا كله صعب، ولكنه ليس مستحيلا.
واقرأ أيضًا
على باب الله: انتحار جماعي/ على باب الله: يسألونك عن الجهل