أنا طبيب نفسي –المفروض يعني- وقد كررت مراراً قول الأخ الصديق أ.د. أحمد عكاشة لشقيقه صاحب الفضل على الثقافة ومصر أ.د. ثروت عكاشة أنني أمارس الطب النفسي في أوقات فراغي، مع أنني أمارس حياتي كلها من خلال عيون مرضاي (أساتذتي الحقيقيين) دون أن أسمي ذلك طباً نفسياً. المهم: تصورت أحد شباب الصحفيين وهو يسألني: "ما هو التفسير النفسي لهذه القبلات والأحضان التي نشاهدها في لقاءات الكبار هذه الأيام؟" فأعتذر مجيباً أنني ضد بدعة التفسير النفسي لكل الأحداث هكذا، وخاصة تفسيراً لتصرفات الكبار، ولهذا وقفت محذراً طول الوقت ضد الانسياق مع ما يسمى "الطب النفسي السياسي"، أو "علم النفس السياسي"، وإن كنت أتفهم هذا الأخير أكثر، (اقرأ مثلاً مقال أ.د. قدري حفني الرائع في أهرام الخميس 22/ 1/ 2009 بعنوان "غزة ومخاض الانتماءات"، أفهم مثل ذلك أكثر بكثير من حشر تشخيصات وفتاوى الطب النفسي في السياسة، وقد وصل الاحتفاء بذلك إلى اقتراح ضرورة الكشف النفسي على رؤساء العالم قبل أن يتولوا مناصبهم (ربما يحتاج الأمر إلى توصية من المحكمة الجنائية الدولية! فيحتج الرؤساء -مثل إسرائيل الآن- أنهم لم يوقعوا على ميثاقها!).
موقفي هذا لا يمنعني من متابعة الهواة الذين يفتون في السياسة باستعمال أبجدية العلوم النفسية، فيبدون أقرب إلى التوفيق من بعض الزملاء، ومن أوائل هؤلاء كان الأستاذ الحرّيف (بالفصحى، والعامية) محمد حسنين هيكل، حين كتب سلسلة من المقالات في أوائل الستينات، قبل هزيمة 1967، بعنوان "العقد النفسية التي تحكم الشرق الأوسط"، (فكانت الهزيمة)، وأيضاً حين زعم المرحوم أنور السادات (فلاّحاً منوفياً مناوراً) أن ما بيننا وبين إسرائيل أغلبه هو لأسباب نفسية (وانتهى إلى زعم آخر الحروب). ثم إنني حين توليت رئاسة قسم الأمراض النفسية، نظمت سلسلة من اللقاءات العلمية لربط الطب النفسي بالحياة العامة، وكان من بينها "الطب النفسي والسياسة"، وكان ضيف هذه الندوة هو المرحوم السفير تحسين بشير، وقد قدم يومها تفسيراً نفسياً، لتعيين الرئيس حسني مبارك نائباً للرئيس المرحوم أنور السادات، كان تأويلاً نفسياً رائعاً شمل الخلفية النفسية لأمور كثيرة كان سيادة السفير أدرى بها، لصلته بهما آنذاك، فقدم تفسيراً دقيقاً ذكياً –لست في حلّ من ذكره- لا أعتقد أن أحد الزملاء المختصين يقدر عليه، أو يجرؤ عليه.
نرجع مرجوعنا لعنوان التعتعة عن "القبلات والأحضان وسط الدماء والأحزان"، رداً على السؤال الذي لم يسأله ذلك الصحفي الشاب، رحت أراجع ما طالعني من صور في الصحف (فأنا لا أشاهد التليفزيون كما ذكرت: فلا يكلّف الله نفساً إلا وسعها)، وكان أقربها هي صور الدوحة والكويت وشرم الشيخ وتل أبيب، رصصت الصور أمامي، ورحت أتأمل المنظر بين العواصم الأربعة، وأغلب العظماء اشتركوا في أكثر من واحدة بحسب الاتفاقات التحتية والفوقية!، أو حسب التطورات الاقتصادية والدبلوماسية!! وربما أيضاً: حسب التقاليد الديمقراطية والقبَـلية (من القبيلة لا من القبلات)، رحت أشاهد هذه الصور بدقة "نفسية"! وحسابات متأدبة! تناسب المقامات الرفيعة التي يمثلها المتصوِّرون (من الصورة وليس من التصوّر)، ثم اضطررت لتفسيرها أن أعود مرغماً لمقارنتها بما امتلأ به بريدي من صور رغماً عني، وبمجرد أن فتحت أول وثيقة "المجازر الصهيونية في غزة" من ثمان وعشرين شريحة، على برنامج النقطة القوية (باور بوينت)، حتى فاحت منها رائحة الدم، وتعجبت لأنني أعلم أن هذا البرنامج لا يبعث روائح أصلاً، وأن الدم ليس له رائحة خاصة إلا بعد أن يتخثر في مكان ملوث بالسياسة، ولم أكد أنتقل إلى شريحة أخرى، حتى طالعتني صورة طفل يحتضر بجواره طفلة تبكي جزعاً ودمعة يتيمة تترقرق على خدها، وهي تقف وحيدة، وكفها أسفل خدها الأيمن، مددت يدي ومسحت دمعتها، فلم تتحرك ابنة ابنتي، مع أن يدى ابتلت بدمعتها، لأكتشف أنها على خدي أنا.
رجعت إلى صور الكبار أتملاها بحثاً عن التفسير "النفسي" لهذه القبلات والأحضان وقلت للشاب الذي لم يسأل: ربما ضاق وقت هؤلاء الكبار العظام عن متابعة ما يجري، ووقتهم أملأ وأثمن من وقتي آلاف المرات، مع أن الصور اقتحمتني بالشم واللمس حالاً كما ذكرت، أو ربما هم أقوى نفسياً جداً جداً -بأمارة أنهم يحكمون بلادهم والعالم- وبالتالي هم أقدر مني ومنك على التحكم في مشاعرهم، أو ربما أخيراً هم يتحاضنون ويتبادلون القبلات لأنهم حققوا النصر، فالجميع خرج منتصراً من هذه الأزمة العابرة! فلماذا لا ينتصر الزعماء والرؤساء أيضاً ويتبادلون التهاني والقبلات بالأحضان هكذا؟.
نشرت في الدستور بتاريخ 28-1-2009
اقرأ أيضا:
حين ينفصل المال عن صاحبه، وعن الناس! / تعتعة سياسية: متواطئــون!!! / تعتعة:..أتعلم من بني كيف أنهزم بشرف وشجاعة؟