هاتفني الابن الصديق د. زكي سالم، يوم صدور تعتعة 10/12/2008 وفيها إشارة إلى قرب صدور دورية نجيب محفوظ وقال لي "مبروك"، د. زكي هو صاحب ومريد ومن أهم الرواة عن شيخنا منذ أكثر من ثلاثين عاماً، (وهو زميلي في هذه الصفحة). د. زكي مقلّ في مكالماته لي، قاسٍ عادة في حكمه النقدي، أذكر أنني حين أعطيته مسودة الجزء الثالث (ملحمة الرحيل والعودْ) من ثلاثيتي "المشي على الصراط" وقال فيها كلاماً طيباً، أنْ مال عليّ الأستاذ وقال: "خلّ بالك، هذه شهادة غالية، زكي صعب، لا يعلنها هكذا بسهولة.."، رددت على مكالمة د. زكي: مبروك ماذا؟ قال: مبروك قرار صدور "الدورية النقدية" للأستاذ، ثم أضاف: أخيراً تحقق حلمك، حلمنا، شكرته ولم أقل له "ياليت"، كنت ما زلت أخشى الإحباط.
لكن الابن الناقد الكريم د. حسين حمودة كان قد اتصل بي وطلب مني المقال للدورية، فأرسلته فوراً، لكنني ظللت متوجساً..، إلى أن اتصل بي مرة أخرى بعد أسابيع يبشرني أن العدد الأول من الدورية قد ظهر فعلاً، يا خبر!! الحمد لله.
كنت قد بدأت التعتعة المذكورة (10/12) استشهاداً ببيت شعر يقول "أخْلِقْ بِذِى الصبْرِ أنْ يحظى بحاجَتَهِ، ومُدْمن القرْع للأبوابِ أن يَلِجَاً". وسألني بعض تلاميذي ممن هجروا الشعر العربي التقليدي عن معنى البيت، فتعجبت للسؤال ولم أرد ردًا شافياً، لكنني فوجئت وأنا أكتب تعتعة اليوم أن سؤال الزميل يعاودني، فرحت أراجع ما قرعتُ من أبواب: وأنا أقترح، وأطالب، وأكتب، وأذيع، لا أكاد أذكر لقاء في لجنة تراثه أو في ذكراه أو أثناء حياته إلا وكررت فيه هذا الاقتراح اللحوح، عددت بعض الأبواب التي طرقتها وعثرت على بعضها كأمثلة: (خطاب لمجلة فصول: عدد نوفمبر- 1988)، (الأهرام: 14/12/2001)، (وجهات نظر: عدد يناير 2003)، ( وجهات نظر: عدد أكتوبر 2006)، (الهلال: عدد مارس 2005)، (روز اليوسف اليومية: 16- 12 – 2005)، (جريدة القاهرة: 28 – 8 – 2007)، (الدستور: 10-12-2008)، القناة الثانية بتاريخ 3-9-2006 - وقناة النيل للأخبار بتاريخ 16-8-2007، أرجعت الفضل في هذه المثابرة إلى نوع الجهاد العنيد والإبداع المثابر الذي تعلمناه من شيخنا، حتى بعد أن توقف إبداعه الكتابي بضعة سنوات بعد الحادث، إذا بي أكتشف أنه يعيد تشكيلنا ونحن حوله بما أسميته إبداع "حي <===> حي".
حين تسلمت العدد الأول من الدورية رحت أقلبه بين يدي قبل أن أفتحه وكأني أهدهد مولوداً عزيزاً، طالت مدة الحمل به واحداً وعشرين عاماً! لكن من فضل الله أن تسلمه فور ولادته من هم أولى به وأقدر على رعايته، فانقلب عملاقاً للتو، فأتصور مشاعر د. زكي سالم وهو يبارك لي، فاتأكد أنه لم يبارك لي بصفتي الشخصية. ثم أافتح الصفحة الأولى فأتبين كيف أن الرائد النبيل أ.د. جابر عصفور لم يكتف أن يكون الابن الناقد الدؤوب د. حسين حمودة سكرتيراً للدورية بل جعله نائبه (نائب رئيس التحرير) فاطمأننت أكثر لتواصل الأجيال، وحين افتقدت ذكر تاريخ تطور اقتراحي شخصياً فرحت أكثر لأن ذلك يعني أن ظهور الدورية ليس نتيجة إلحاح فرد محب دؤوب، وإنما هو الإفراز الطبيعي لاستمرار حضور شيخنا هكذا في وعينا جميعاً،
نجيب محفوظ باق ليس فقط بما ترك "لنا" ولكن بما ترك "فينا".
حين توقف نجيب محفوظ عاماً واحداً عن الكتابة إثر هزيمة 1967، انطلق بعدها أعمق وأوفر عطاء حتى توج تلك المرحلة بملحمة الحرافيش التي راح من خلالها يعلمنا أن الحياة دورات لا يخلد فيها إلا الحق، كان يواصل حربه، حربنا، ضد هذا العدو الدنيء الشرس في جبهة أخرى، بأسلحة أخرى، أبقى وأقدر على مواجهة التحدي إبداعياً وحضارياً. امتداد هذه الحرب الطويلة الرائعة– بما ترك فينا- هو الذي أصدر الدورية، وقد واكب ظهورها ما اقتحم وعينا من دماء الشهداء وأشلاء الأطفال.
شكراً يا عمنا محفوظ، شكراً يا أ.د. جابر عصفور، شكراً للأستاذ علي أبو شادي، شكراً يا د.حسين حمودة، شكراً يوسف القعيد (رئيس تحرير سلسلة نجيب محفوظ التي سبقت الدورية: الهيئة العامة للكتاب)، شكراً يا د.الأنصاري).
حين صمت نجيب محفوظ عاماً يتجرع فيه هزيمة 1967 بكل الألم، عاود الحرب، يمهد لنا بطريقته حرباً أخرى، ولم يتوقف أبداً حتى بعد إصابته، لعل نوع السلام الذي أقرّه شيخنا، هو ما استقبلته إعلاناً مؤجلاً لقبول الهزيمة بشجاعة، لنواصل الجهاد إبداعاً أبقى نحو نصر أكرم.
نجيب محفوظ يعلمنا كل ذلك حيّاً وباقياً، فنذكره، ونشكره ونحن نعتذر له عن اختزال بعض المتشنجين لموقفه دون وعي مسؤول يليق بحجمه، ويعترف بعطائه، ويحذو حذو حكمته.
نشرت في الدستور بتاريخ 11-2-2009
اقرأ أيضا:
تعتعة سياسية: قبلات وأحضان، وسط الدماء والأحزان / تعتعة:..أتعلم من بني كيف أنهزم بشرف وشجاعة؟ / لكنّ دَسَّ السم في نبض الكلامْ: قتلٌ جبانْ