في بلاد الكلام يعتقد كل من يعرف يتكلم أنه يعرف حقا!! وأن ما يصدر عنه من أصوات ونغمات وحروف ومقاطع بالضرورة له معنى، ويستحق الانتباه والرد!!
ويستفحل الجهل في غياب قيمة المعرفة والتعرف على الحقائق، وفي إطار التدهور العقلي السائد فإن ترديد القوالب والكليشيهات والهتافات اللفظية سابقة التجهيز يقوم مقام التفكير والحوار، ومرحبا بالكسل الذهني والجمود والتعصب، وكل منظومات الانهيار!!
كيف تقنع الجاهل بأنه جاهل؟!!
غمغم بها صديقي ونحن نتكلم عن جهل الأغلبية الساحقة بأبجديات العمل السلمي المدني، وأساسيات حراك الناس في إطار القوة الناعمة، مجاهدين يعيشون الجهاد في كل لحظة!!
في الأسواق كتاب ترجمه د.حامد عمار عن "باولو فريري" أحد أشهر الأسماء التي تناولت التعليم بشكل مختلف عن الهذيان الذي نولد وننشأ على حفظه وترديده في حظائر التلقين التي هي مدارسنا، ومن "يعرف" شيئا محترما عن معنى التعليم وأساليبه وفنونه وأهدافه وبرامجه سيفهم ما أقول، ومن لا يعرف ربما يكتفي بالاستنكار أن سيادته خريج حظائر، وأن ما قضى أغلى سنوات عمره فيه لم يكن سوى تهريج وتضييع وقت، وتشويه دماغ، وتدمير ملكات ومواهب ربما كانت فيه فسحقها مدرس غبي، أو أم لا تعرف عن الأمومة إلا أنها ثدي يرضع، وأيادي تستبدل الحفاضات، وصوت يصرخ ويتوعد ويشكو!!
كتاب فريري عنوانه بعد الترجمة: التعليم من أجل تربية وعي ناقد، والوعي الناقد يستوعب ويقارن، يفهم ويتساءل، يرتب المعلومات التي تعب في الحصول عليها والوصول إليها ليصوغ الحجج والأسانيد، ويبني موقفه العقلي والإنساني، ويكون مؤهلا للدخول في حوار ينضج الأفكار، ويصل إلى حلول لما يواجهه من مشكلات!!
عندنا نحن الأمر يختلف فكل من يحرك لسانه وشفتيه، وتعلم أبجديات الكتابة يعتقد نفسه عالما وجهبذا وصاحب رأي، والإنترنت صارت منبر من لا منبر له، وهات يا خناق وصراخ وتصاعد للسفاهة والجهل وتكريسه، وهكذا تصبح التكنولوجيا وبالا على قوم لا يتعبون أنفسهم في البحث عن المعلومة، أو تدقيق أو فهم ما يتداولونه، أو يهرفون بما لا يعرفون فيه!!
ساهمت التكنولوجيا في سحق هرمية المعرفة ـ التي لا أحبها ولا أدافع عنها ـ لصالح حالة من الفوضى العارمة تتداخل مع فوضى "كل شيء" التي نعيشها، وبدلا من أن نستفيد من أدواتها لنتعلم شيئا ينفعنا ساهمت في تكريس انهيارنا حتى صارت حالتنا ميئوسا منها، ونحن من جهلنا نعتبر أننا في قمة العافية والصحة، طالما نتكلم وننشر في الحال، وعلى الهواء مباشرة!!!
جولة بسيطة في شوارع مدن الشبكة العنكبوتية ستغرقك في سفاهة بلا حدود، والسفاهة في اللغة هي "ضعف العقل"، والعقل يقوى بالتفكير والاستخدام الراشد للمعلومات، وحشد وترتيب وتصنيف وفلترة الأفكار والحجج، ويقوى بالمناظرة والمقارنة وحوار العلم والمتعلم، وهو ما ضاع وسط البزرميط، وضجيج الجهل والجهلاء!!
وزاد الطين بلة على النت حيث غموض هوية المحاورين وحقيقة بنائهم المعرفي!!
ليس الجهل المتعالم بظاهرة جديدة على الإنسانية، لكن الجديد أن الجاهل صار يمتلك أداة لإشاعة جهله، ولا أعتقد أن منع الناس من ممارسة حرية التعبير هو الحل لهذه المعضلة، ولكن المزيد من الجهل ينتظر أمتنا إذا سارت الأمور هكذا، وكالعادة لا أحد يفهم أو يحذر أو يحلل أو ينتبه، وبدلا من محاولة التماسك لإنقاذ ما يمكن إنقاذه نغرق في محاولة طفولية للدفاع عن الأمر الواقع وتكريسه!!
ويتدهور العقل والتفكير والحوار، وتشيع الفوضى!!
وأصحاب الرؤوس المحترمة يخافون من طوفان السفاهة والسفهاء، فيلتزمون الصمت حتى لا تصيبهم الأحجار، أو كرات النار، كتلك التي أحرقت بيوت بهائيين في "سوهاج"، وحيث يقول الله سبحانه: "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، لكن بعض سفهائنا كان لهم رأي آخر، وتحت ضغوط الجهل والسفاهات الذائعة، ومن الجهل انطلقوا ليقذفوا بيوت البهائيين بكرات اللهب، وهم يهتفون "لا إله إلا الله... البهائيين أعداء الله"، فهل كانوا يهتفون باسم الله القائل:"من شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر"، والقائل:"لا إكراه في الدين" أم كانوا يهتفون باسم إله آخر!! وأي الطرفين هو ضحية الجهل المنتشر؟!!
والخلاصة أن الجهل والجهالة والجاهلية تصل لحد القتل الذي يعتقد صاحبه أنه يحسن صنعا، بينما هو من الخاسرين أعمالا، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا!!
فأية مفارقة تلك؟! وأية محنة نعيش؟! وأي مستقبل ينتظرنا هكذا؟!!
حكمة القدماء تقول: إياك ومناظرة الأحمق، والشافعي يقول: لو ناظرت مائة عالم لغلبتهم، ولو ناظرني جاهل واحد لغلبني!!!
وصاغها الشاعر:
لكل داء دواء يستطب به ..... إلا الحماقة أعيت من يداويها
مضخات الجهل تغرقنا، وتيارات الجهل تعصف بنا، والسلامة في الصمت، أو أن تتاحمق!!
والأحمق عدو نفسه يخرب حياته بيديه، لا يحتاج إلى عدو، ولا إلى مؤامرة من خصم، وأعداؤنا يرقصون فرحا، ويفعلون بنا الأفاعيل، ولم لا وفوق رؤوسنا يحكم الغباء والاستبداد، وفي صفوفنا يرتع الجهل، وتقوم على أساسه الدول والتجمعات والمؤسسات!! وهنيئا لإسرائيل!!
عقولنا تحتاج إلى نوبة صحيان ومراجعة، والتدهور الذهني والحواري والعقلي الذي أصابنا ليس قدرا محتوما، لكنه مرض يحتاج إلى تشخيص وفهم للأسباب والجذور، والأعراض والتجليات، ويحتاج إلى جهد جماعي لعلاجات فورية تنقذ العقل من محنته لأن غياب العقل وتغييبه صار يقدم لنا صنفا مغشوشا من الالتزام الديني الأحمق، وبالتالي يهدد حياتنا كلها!!
وليس أجمل ختاما لكلامي من حديث الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام: عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنكم على تقية من ربكم ما لم تظهر فيكم سكرتان: سكرة الجهل وسكرة حب العيش وأنتم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتجاهدون في سبيل الله فإذا ظهر فيكم حب الدنيا فلا تأمرون بالمعروف ولا تنهون عن المنكر ولا تجاهدون في سبيل الله القائلون يومئذ بالكتاب والسنة كالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار". رواه البزار ِ
واقرأ أيضًا
على باب الله: لبانة الإنتماء/ على باب الله: قتل المقاومة: نصائح للمبتدئين