أوباما: أنا أحب هذا الفتى، أحب ما يمثله، أحب من انتخبوه عبر العالم، باعتبار أن الناخب الأمريكي هذه المرة قد تقمص وعي العالم، فقالها، في لحظة إفاقة، قالها بعد تراكم غباء رئاسته السابقة التي فاحت رائحتها، فاختلطت مع رائحة دماء ضحاياها المتخثرة، حتى عمّ الغثيان البشر في كل مكان فنجح أوباما.
هذا الفتى الرشيق قابلته قبل ذلك، مرة في "أبو سنبل"، ومرة على قهوة البوسطة في أسوان، وكثيراً جداً في عيادتي، كان هو أو أحد أقاربه يثقون بي بشكل خاص.
هل عرفتم عمّنْ أتكلم!؟ ومن هو الذي أحبه؟ ليس هو الرئيس الأمريكي الجديد على أية حال.
بعد نجاح هذا الرشيق الطيب وفرحتي بابنتيه وزوجته الجميلات، ظهرت علامات أنه "ليس هو" من أول تصويت في الكونجرس حول مجزرة غزة، وحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، انكشف الملعوب مبكراً جداً، أنا لا أتهّمه شخصياً بأنه خدعنا أو خدع ناخبيه، ولكنني في نفس الوقت لا أتصور أنه غابت عنه حقيقة القوى التي ساندته واستعملتْ ضجر الشعب الأمريكي الكريم وقرفه من سلفه –ثم التقطتْ ذكاءه، وما يمثله-، فوجدت فيه لافتة إنسانية براقة، يمكن أن تخفي وراءها -مع سبق- إصرار محرّكي اللعبة، وربما دون قصد منه تخفي نفس النوايا والخطط التحتية التي تحكم العالم، هي هي!.
بل إن الخدعة قد تكون أكبر لأن الواجهة أجمل؛ فمن ذا الذي يستطيع ألا يكره بوش ويستغبيه!! ومن ذا الذي يستطيع ألا يحب أوباما ويستظرفه، فإذا مضى اللعب التحتي هو هو برغم تغيير اللافتة إلى النقيض، فاللعبة أخبث.
قرأت اليوم في الصفحة الأولى "للشروق"، وبعد الإفراج الصحي جداً (السكر والضغط!!) عن المظلوم فعلاً أيمن نور، قرأت في الشروق عنواناً يقول "وااا أوباما اااه" "صيحة شباب النت"، وتحت العنوان فرحة وتباريك، وشكر على الفيس بوك، لأوباما؟ يا للخجل!!!
أنا لا أخفي فرحتي بالإفراج عن أيمن نور مثلهم، وربما أكثر، كانت الصورة التي حضرتني لخروجه هي صورته وهو يحتضن ابنته حين عودته، ثم وهو يقبلها بعد أن تروح في النوم، ومع ذلك فقد رفضت استغاثات شبابنا واستجدائهم هكذا، وكأن الشاعر "أحمد مطر" حين كتب قصيدته في أوباما كان يعرف هذا الذي سيكون.
أنا أحب الشعر "الحلمنتيشي" من يوم أن كان أبي يشتري لنا البعكوكة في أوائل الأربعينيات في طنطا فنحوط به وهو يقرأ لنا يوميات أم سحلول، وأذكر فرحته الساخرة وهو يقرأ هذا الشعر ويعجب لالتزامه بالوزن، برغم ضربه عرض الحائط بكل قواعد النحو وأحياناً الإملاء، ما زلت أذكر قراءته بيت قيس ابن الملوح وهو يخاطب "ورداً" بعد زواجه من ليلى: بربك هل ضممت إليك ليلى، قبيل الفجر أو قبلت فاها"؟ فيواصل أبي قراءة شاعر البعكوكة على نفس النهج"، وهل رَضِيَتْ بهذا البوُسِ يعني .. أم التقبيلُ كانَ بِلاَ رِضَاها؟...إلخ".
رحت أقرأ استغاثات شبابنا بأوباما، وأراجع في نفس الوقت قصيدة أحمد مطر، فيحضرني شاعر البعكوكة مقتحماً، يقول أحمد مطر:
افعلْ هذا يا أوياما ...،
أَمْطِرْنَا بَرْدًا وسلاماً..
وفّر للعريان حراماً...،
فصَّل للنملةِ بيجاماَ"
فأقول كنظام شاعر البعكوكة:
يا أوباما .. يا أوباما
أخْرِجْ "نوراً" من مَحِبِسه.....، أرجِعْ سعد الدين أواما
إحْم الطفل من أبويه........، صلّ الجمعة بينا إماما
وفّرْ أمْنَاً لنتانياهو..........، وارقص مع سيرك الإعلاما
ولْيقتلْ أطفالاً أكثر.........، ليس يهُمكَ عندنا "يَامَا"
تْأمُرْ "تهدئة ً"؟! عَالـْبركهْ!........، طيِّبْ حاضرْ "كلُّه تماما"
وبعد،
لابد أن أعترف أنني تألمت حين قفزت مني السخرية بهذه الصورة الفجة، كما أعترف أنني حذفت ما هو أقبح حتى لا أجرّح شبابنا الجائع إلى دعم أو أمنٍ أياً كان مصدره، الجائع إلى حلم وكرامة أياً كان مَنْ وراءهما، وأيضاً حتى لا أجرح أي مقاتل شريف لا يمانع أن يواصل حياته في أمان بعد تضحياته النبيلة، إذا ما وصله من أي مصدر صادق يعينه على استرداد أرضه والحفاظ على إنسانيته.
لكنني أعود في النهاية، فأؤكد أن علينا أن نحذر تماماً، وأكيداً، ودائماً، من نسيان القواعد التحتية التي تحكم العالم فعلاً، سواء على رأسه بوش أم تاتشر أم ميركل أم أوباما، أم ملاكاً من السماء، كما أحذر أكثر من الاعتماد على الكلمات البراقة الملتبسة التي تخفي في ثناياها لعباً أخفى وسمًّا أشد فتكاً، حتى لو أعلنت العزوف عن القتل، والقهر والتنكيل.
وقديما قلتُ:
لكنّ دَسَّ السم في نبض الكلامْ: قتلٌ جبانْ.
نشرت في الدستور بتاريخ 4-3-2009
اقرأ أيضا:
تعتعة:..أتعلم من بني كيف أنهزم بشرف وشجاعة؟ / تعتعة سياسية: دورية محفوظ بين ملحمة الحرافيش، وملحمة غزة / تعتعة سياسية: هل أنت مثقف؟