عزيزي السائل:
أطمئنك أن نشر كلامي هذا لا يقدم ولا يؤخر، فهو لا يكشف سرا ولا يؤثر في شيء، فنحن أمة لا تقرأ، ومن يقرأ يكاد لا يفهم، ومن يفهم بطئ الهمة، خائر العزيمة، والمتحمسون لا وقت لديهم يضيعونه في القراءة، والكلام... الفارغ!!!
لا تقلق إذن من أن تصبح خطة العمل مكشوفة مذاعة على الملأ، فأنت محظوظ لأنك تواجه أمة يقولون أنها طيبة، وأنت تعرف ـ عن خبرة ـ أنها بلهاء، ودعني أدخل إلى الموضوع مباشرة.
مهمتك سهلة في قتل روح المقاومة، ولا تستغرب حين أقول لك هذا، وأنت لا تعمل وحدك بل سبقك كثيرون استطاعوا خطوة خطوة، وعبر ألاعيب بعضها خفي، وبعضها مكشوف أن يتركوا لك رصيدا كبيرا تبني عليه وتستثمره، وما عليك إلا حصاد ما زرعوا، واستكمال ما بدأوا.
تسألني من أين تبدأ؟! وأنا أقول لك بعض ما أنجزوا لتستكمل:
أولا:
روح هذه الأمة وعمود ثقافتها وإبداعها هو ذلك الدين العجيب الرهيب الذي قلب موازيين التاريخ مرة، ولمدة طويلة، ولم ينجح عمل سلفك إلا عندما تعلموا وتفقهوا وبحثوا ونقبوا ليعرفوا أسرار قوة هذا الدين، وليس في الأمر كثير أسرار، وببساطة فإن تغييب مفاتيح العمل، وإضعاف مصادر الطاقة، وروافع التحريك الأساسية في روح أية أمة كفيل بإدخالها في غيبوبة، ولا يصدر عنها حينئذ إلا هذيان الغائب عن الوعي!!
وسلفك أفلح كيدهم وعملهم حتى صار دين الجهال عدوا للحرية والمعرفة، والإبداع والعقل، والفنون والآداب، والثقافة بمعناها الشامل، وحين يتغشى الجهل وحب العيش ـ أي عيش ـ في أمة فإن عملك سيكون سهلا، فما أيسر أن تقود قطيعا إلى حتفه، وأنت تقنعه أن في هذا الحتف مصلحته العليا، وأمنه القومي، وبقاء الوطن والنوع!!
اطمئن فالدين عند الأغلبية الساحقة من تلك الأمة قد صار مجرد ضوضاء، وكلاما مكررا لا يسمن ولا يغني من جوع، ونفاقا يمارسه الناس بالليل والنهار.
لم يعد دين حرية ومعرفة وإبداع وإنتاج وعمارة أرض وبنيان نفس ومجتمع، بل فقط ترديد هتافات، وملأ بطون، وتغطية رؤوس، ونقر طقوس، وصراخ وتعايش مع كل أشكال الهوان والمذلة والتخلف والضياع!!
ثانيا:
ساعد سلفك ودعموا خطوات وخطط لمحاصرة وحصر وحصار الجهاد، ومن ذلك أنهم حصروا الجهاد ـ وهو ذروة سنام الإسلام ـ في مفهوم القتال، وساعدهم في هذا بعض أصحاب العمائم بحسن نية، وبعضهم بغير ذلك!!!
وحين ينحسر مفهوم الجهاد في القتال فإن التعليم والإعلام والتأليف الدرامي والإبداع الأدبي والفني، والموسيقى، والخطوط والعمارة الملائمة للبيئة، والزراعة، والصناعة، وكل نواحي العمران ستكون خارج مساحة الجهاد، بل وساهم سلفك في دعم الزعم بتحريم بعضها ـ من حيث المبدأ ـ ولك أن تفرح وترقص طربا، وأنت تواجه أمة منهارة فقدت دافعية ومجالات وروح الإنجاز، ولم تعد تفهم ولا تدرك أن الجهاد ليس فقط القتال وليس فقط كلمة حق عند سلطان جائر، ولكنه أيضا ودائما آلاف وملايين الكلمات والأفعال بالليل والنهار تهدي وتبني وترشد وتعلم!!
وطالما (لا جهاد إلا القتال) فإن الأمة استسلمت للتهريج والهزل والكسل والغباء والقبح وتقليد الآخرين والعيش عالة على الأمم في البحث العلمي ومناهج العيش والحياة بكل أنشطتها!!
ولا تضحك حين ترى أمة الجهاد وقد صارت حياتها بكل تفاصيلها خارج منظومة الجهاد الحقيقي بمفهومه الشامل، بل ومعادية بحكم طبيعتها وتفاصيلها للجهاد في مستواه القتالي، لأن القتال ـ كما تعرف ـ هو حشد لكل هذه التفاصيل لمواجهة عدو يحشد تفاصيله أيضا، ويشحذ أدواته وعقوله وإمكاناته!! فماذا لدينا نحشده سوى الغثاء؟!!
ثالثا:
ساهم سلفك في دعم وزرع وتنمية بذور الشقاق والنزاع والتمزق والصراعات بين أبناء الأمة الواحدة فلا تجد واحدا إلا ويعيش في حرب بل حروب يومية بسبب الانتماء الأيدلوجي السياسي أو الجذور العرقية أو المذهبية، والمشاحنات مستمرة ومشتعلة ما تلبث أن تنطفئ حتى تعود أشد مما كانت، وحالة الحرب الدائمة هذه بين الأنظمة والنخب، وبين الناس وبعضها: بين الرجال والنساء، بين الشيعة والسنة، والمسلمين والأقباط، وبين العرب والبربر والزنوج، وبين البوليس والأهالي، وبين الأغنياء والفقراء، بين من لا يملكون قوت اليوم، ومن يبعثرون على الغواني بالملايين.. هذه الحروب تشغل الناس، وتستنزف طاقاتهم، وتملأ صحف ومجلات وحياة كل واحد وواحدة، وحتى صراعات داخل كل أسرة ومؤسسة وهيئة تشغل الملايين عن ملاحظة وملاحقة أصدقائكم من الفاسدين المفسدين عصابات الخراب والنهب والضلال التي تتسلط على حياتنا، وآلاف المعارك الصغيرة تشتعل مثل فوسفوركم الأبيض الذي كان يزداد اشتعالا مع كل هبة ريح ليحرق منا المزيد لحما ودما!!
هذه الأمة الممزقة المهلهلة المفككة المولعة بالحروب الداخلية، وأنواع الصراعات التافهة، ودعاة الفرقة فيها من العملاء، والأغبياء أصحاب النوايا الحسنة، هذه الأمة هي الوسط الأمثل للقضاء على أية محاولة للاحتشاد حول معنى وهدف وقيمة المقاومة، واطمئن فإن بدا لك أنها استيقظت وارتفع فيها صوت للعزة والكرامة واليقظة والانتباه صوب النهضة أو نحو مستقبل أفضل سرعان ما ستشتعل فيها نيران الصراعات الغبية المهلكة، وفينا سماعون لكل ناعق بخراب، وعميان نحن لا نعرف الفارق بين البلبل والغراب!!! ولا بين الصديق والحليف والعدو الظاهر المعلن، فهل تتوقع أن ندرك الأعداء الأخفياء؟!
وإذا كنا نلعن المتخاذلين، ولكن في الوقت ذاته لا ننتبه للأبطال الذين هبوا وعملوا، وما زال بعضهم يعمل لمصلحة فلسطين، ودعما للمقاومة بوسائل شتى وسبل متعددة، ونحن عن جهدهم غافلين... وفقط نرفع أصواتنا بالعويل من أننا جميعا لا نفعل شيئا، ولا نصلح لشيء!! فإذا كنا من البلاهة والغفلة بمكان حتى لا ندرك هؤلاء، ونتعلم منهم، ونتواصل معهم، ونفعل مثلهم، ونزيد عليهم... فإنه ستبقى فئة محدودة بعد ذلك يقبضون على الجمر، وعلى السلاح، ويعيشون الجهاد والمقاومة، ولأنهم أقلية محدودة كما ترى، فمن السهل تشويهها، وتلفيق التهم لها، وافتعال القضايا، وتشويه السمعه سهل في أمة بلهاء كهذه، وبالتالي سيكون ميسورا بعد حصر الجهاد في القتال، ومسخ الدين إلى مجرد طقوس، وتمزيق الأمة إلى شيع وأحزاب وجماعات ومعارك وطوائف وقبائل، وأصنام، سيكون سهلا حصار المقاومة، وبخاصة العسكرية، والضغط على أبنائها، والاستفراد بهم، وإرسال الوفود الدولية والعربية إليهم تحت شعارات مثل الحوار والتقارب والتفاهم الذي ليس سوى الترويض، ولي الذراع، واستخدام الأساليب الديبلوماسية الناعمة التي لا يراها العميان، ولا يفهمها البلهاء، وبالتالي اطمئن فإن أحدا لن يدرك أن هذه الأيادي الممتدة إنما هي لخنق المقاومة، وأن كل يوم يمر في غيبوبة الشعوب يعني أن العدو يتحرك في طرق وسبل وأساليب خنق المقاومة، ونحن نمد له يد العون بوقف الجهود، وتجميد المبادرات التي بدأت، والتي تتحرك في العالم كله إلا عندنا، في ملاحقة الصهاينة وفضحهم والتضييق عليهم في كل مجال، والدعوة إلى مقاطعتهم، وكذلك نشر الوعي وشحذ الذاكرة وإيقاظ النائمين من أبناء أمتنا!!!
نحن توقفنا وبالتالي نساهم بغبائنا في إحكام الحصار، ودروب الحصار، والالتفاف لإحكام هذا الحصار على المقاومة العسكرية، وأبله من يعتقد أن الحصار مجرد معبر مغلق، وأنفاق تهدم!!
اطمئن... مهمتك سهلة... القلة المحدودة الفاهمة مشتتة ومتفرقة و"لايصة"، لأن المهمة أكبر بكثير من إمكانياتها، وهي أيضا لا تبذل جهودا حقيقية لا في التنسيق ولا التقارب ولا تطوير الأداء، واطمئن فإن أغلب المخلصين ينقصهم الوعي، وتعرف أن الإخلاص وحده لا يكفي، وقديما قالوا: "الناس هلكى إلا العالمون، والعالمون هلكى إلا العاملون، والعاملون هلكى إلا المخلصون، على خطر عظيم" اطمئن... الأمة صارت تعتقد أن الجهاد فرض كفاية، تقوم فقط به هذه الجماعات المحدودة المحاصرة، وينحصر دور الأمة فقط في دعمهم، والدعاء لهم إذا أحسنوا، ولومهم إذا اجتهدوا وأخطأوا، وبعدها يعود الكل إلى لهوه أو جده، ويترك "الجهاد" لأهله!!!
أمة من العميان لا ترى سبل الجهاد، ولا أنواعه وميادينه!!
اطمئن... هذه أمة تركت الجهاد كما شرحت لك، والوعد قائم ـ كما تعرف ـ فما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا، ولا كرامة لجاهل!!
هنيئا لك مهمتك السهلة، ولا عزاء ولا مستقبل للبلهاء، فهؤلاء يسحقهم التاريخ، وهاهم أمامك يسحقون وينسحقون.
واقرأ أيضًا
على باب الله: يسألونك عن الجهل/ على باب الله: معضلة الكتابة