الذي يتابع ما يجري في العالم لا بد أن يكتشف أن وراء كثير منه تخطيطاً ما لتقسيم العالم إلى آلهة زائفة وأنعام تابعة، وهو تقسيم خليق بأن يقضي على إنجازات الحضارة الإنسانية كلها، ثم إذا تمادى هو جدير بأن يجهز على الكائن البشري ككائن حيّ أصلاً.
الأقلام الأنيقة المستسهلة، والعقول المبرمجة التابعة، جاهزة، هذه وتلك للانقضاض على كل من يحاول أن يفسر الجاري تفسيراً أشمل، مهما كان تفسيره منطقياً ومبرراً، مبرمجة وجاهزة لاتهامه بأن تفكيره تآمري بشكل أو بآخر، وهم غير مدركين أن للتآمر تاريخ تطوري طويل، حتى قبل نشأة المجتمع الإنساني، التآمر هو الذي حفظ أنواعاً من الأحياء على حساب أخرى (وللتذكرة من جديد: هي واحد من كل ألف، والباقي انقرض، فليحذر الجنس البشري، إذ يبدو أن عليه الدور للانضمام إلى الأغلبية).
يجلس الآن في البيت الأبيض رجل أسود، ذكي، مهذب، خفيف، لطيف، لا عيب فيه! وكل هذا يبشر السذج بخير كثير، ويعد المنتظرين العفو والفعل من خارجهم بما شاءت لهم خيالاتهم من وعود (أكبر منك ديمقراطية زائفة بسنة، من حقه أن يستغلك لصالحه قروناً!).
قلت في تعتعة الأسبوع الماضي أن علينا أن نحذر من أوباما رئيس أمريكا مهما بدا التشكيل أجمل وأكثر عراقة( أسود في أبيض)، فقد يثبت أن الذي تغيّر هو لون اللافتة وليس "نوع النشاط"! (داخل "المول العالمي الاستغلالي الكبير").
في ظروف لا يُحسد عليها، دخل أوباما المسرح والاقتصاد العالمي، وعلى رأسه الأمريكي يترنح، ليس من أثر صدمة مفاجئة، وإنما من تراكم غباء أوهامه التي صورت له أن التاريخ انتهى لحسابه، نفس هذا النظام المنتهي عمره الافتراضي ما زال سائداً حتى الآن برغم سكرات الاحتضار، التصحيحات الاقتصادية الجارية تتم بحقن الإسعاف التسكيني، وليس بالعمليات الجراحية الأنجح، كيان الاقتصاد العالمي الحالي يواصل لهاثه عن طريق التنفس الصناعي لا أكثر. كل ذلك يؤكد إرهاصات النكسة البشرية الجارية الناتجة عن عمليات شرذمة البشر، ليس فقط إلى دويلات صغيرة متحاربة، بل إلى قبائل بدائية متناحرة، لتستلم جميعها، المنتصر والمهزوم إلى التشكيل القبائلي الجديد: أنعاماً سائمة في خدمة آلهة زائفة. آلهة لا يُحاسبون، وأنعام تساق لخدمتهم، يركبونها، وزينة.
القبائل الجديدة يعاد تشكيلها بمقياسين: الأول: غباء التعصب الإثني والديني، والثاني: ثراء باطن الأرض التي تقع القبيلة المعينة فوقها، وما تخبئه من مواد أولية وطاقة. المخطط يسير على مسارين: الأول: مسار الاستعمال الانتقائي للقانون (بما في ذلك القانون العالمي)، الكيل بمكيالين، فلا يطبق القانون إلا على الأضعف والأعمى الأغبى، والثاني: هو تحريك الأقليات، والنفخ في التعصب العرقي، والديني الأصولي، لتفتيت العالم إلى النظام القبائلي الجديد. النتيجة المنتظرة هي تقسيم البشر إلى قبائل من السائمة البلهاء، يحكمها مجلس أعلى من الآلهة الزائفة، ومن ثم: السير نحو الهاوية للجميع.
أليس هذا هو الجاري بالعراق والسودان الآن؟: العراق يقسم إلى ثلاث دويلات على الأقل، سنة وشيعة، وأكراد، والسودان إلى أربعة دويلات: جنوب وشمال وعرب وأفارقة، والدور علينا وعلى كل من لا يفكر تآمرياً ليبقى. أنا لا أحب البشير، مع أنني أحب كل سوداني تقريباً (واللي مو خالو مصري مو سوداني، هذا ما سمعته منهم في الخرطوم 1980). ولم أحبب النميري، وأحببت سوار الذهب، واحترمت الترابي، ثم رفضته... إلخ، أنا لا أحب أي عسكري جاء على ظهور الدبابات ثم لم يتورع أن يستعمل شكل الدين ليبقى، لا أحب من يشتري الأصوات الانتخابية بدغدغة الغرائز الدينية، خاصة لو كان عسكرياً، ليس معنى هذا أن أفرح لقرار توقيف البشير دون شارون وأولميرت وبوش.. إلخ (هو رأي الجارديان أيضاً هذا الأسبوع).
لقد أوجز العدل (سبحانه) موقف المحكمة الجنائية الدولية ومَنْ خلفها بأنهم من المطففين "الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ". وحين كرّم الحق (تعالى) بني البشر، فعل ذلك على شرط أن يجاهدوا إليه، إذ يزكون أنفسهم– نموّا- نحو فطرتهم التي كرمهم بها، إلى ما خلقها لها، وبذلك فقط يستحقون أن يظلوا على قمة هرم تطورهم، هذا وإلا، فالنتيجة منطقية (لا تآمرية):
إذا لم نستطع أن نحافظ على جنسنا بشراً وشاركنا –ظالمين ومظلومين– في لعبة تشكيل النظام القبائلي الجديد: (آلهة زائفة، وأنعاماً سائمة)، فهي النهاية.
إنما أهلك الذين من قبلكم (أحياء وأناسيّ) أنهم لم يتآمروا لصالح نوعهم، والله لا يهدي القوم الظالمين،
ولا المظلومين العميان المستسلمين.
نشرت في الدستور بتاريخ 11-3-2009
اقرأ أيضا:
لكنّ دَسَّ السم في نبض الكلامْ: قتلٌ جبانْ؟ / تعتعة سياسية: هل أنت مثقف؟ / تعتعة سياسية: الوصايا العشر، لحكّام العصر، في بر مصر