من المعروف عن العرب أنهم أهل خير وبركة ويُحب الواحد منهم مساعدة الآخرين بما يقدر عليه من أمور حياته، وهذا على الأقل ما كان صاحبنا سعيد يتصوره عندما قرر أن يُسافر إلى أوروبا ليُعالج ابنه المريض الذي استعصت حالته على الأطباء العرب في الوطن العربي مما اقتضى أن يُسافر به إلى لندن كي يُعالجه هناك (ويا للسخرية) طبيب عربي مقيم في المهجر!!
وصل سعيد مع ابنه إلى مطار لندن وكان هناك بانتظاره ابن عمه الذي اتصل به من بلده كي يستقبله في المطار، وبعد القُبل والأحضان استقل الجميع السيارة، وهنا توجه ابن عم سعيد بالحديث إليه قائلاً:
ـ أهلاً وسهلاً بابن عمي نوَّرت لندن والله.
ـ الله يخليك، منورة بوجودك أنت وعائلتك إن شاء الله.
ـ طيب في أي فندق ناوين تنزلون؟
صُدم سعيد لدى سماعه هذا السؤال، فقد كان يحسب أن ابن عمه سيستضيفه في بيته خصوصاً أنهم تربوا سوياً وكان يعتبره مثل أخيه، وكلما كان ينزل إلى بلده كان ينزل في بيت سعيد! خرج سعيد من أفكاره على صوت ابن عمه الذي قال:
ـ ها يا ابن عمي لم تُجبني أين ستنزل؟
ـ والله أنت أدرى يا ابن العم، خذنا على فندق يكون رخيص ونظيف.
ـ إن شاء الله أنت تأمر.
وصلت السيارة إلى الفندق فطلب ابن العم من سعيد أن ينتظر هو وابنه في السيارة حتى يعود، خرج ابن العم من السيارة ودخل الفندق المتواضع ثم عاد بعد دقائق وطلب من سعيد وابنه النزول. تعجب سعيد من هذا الموقف وقال:
ـ لم أفهم يا ابن العم لماذا ذهبت بدوننا؟
ـ والله أنت تعرف أنا من حقي أخذ عمولة من الفندق لأني جبت لهم زبون وهاي لازم اتفق معهم عليها قبل دخولكم.
ـ عمولة؟ تأخذ عمولة عني وعن ابني؟
ـ والله يا سعيد (بيزنس إز بيزنس).
ـ (بيزنس إز بيزنس)!!!؟؟؟
ـ نعم هذه هي لندن لا مجال فيها للعواطف الفارغة، فكل شيء له سعره وثمنه الذي يجب دفعه، وعلى فكرة فإني لن آخذ منك أجرة التوصيلة من المطار كاملة فبالعادة تكون أجرة هذا المشوار 70 جنيه إسترليني، ولكني عملت لك (ديسكاونت) وراح آخذ 40 جنيه إسترليني بس لأنك حبيبي وأخي!!!
ـ كمان الأجرة!؟
ـ طبعاً هل تظن البنزين في لندن مجاني؟ أم قطع الغيار؟ أم الضرائب؟ كل شيء هنا بفلوس يا حبيبي و(بيزنس إز بيزنس).
حزن سعيد لما رآه من تبدل حال ابن عمه ونزعته المادية وقال له:
ـ لا بأس فنقودي لن تذهب لشخص غريب، وأنت أولى بها من سائق (التاكسي).
ـ شكراً لتفهمك.
قضى سعيد الليلة مهموماً ونهض في الصباح الباكر وذهب مع ابنه إلى المستشفى وأجرى الفحوصات اللازمة له وتقرر أن يعود خلال 6 أشهر لإجراء العملية الجراحية.
أخذ سعيد وابنه (تاكسي) إلى المطار وعاد إلى الوطن ولم يُحدث سعيد أحداً من العائلة عما فعله ابن عمه، ولكنه كان مصراً بينه وبين نفسه أن يُلقنه درساً لا ينساه في التعامل مع الأقرباء.
بعد 6 أشهر كان سعيد يستعد للعودة إلى لندن اتصل بابن عمه وقال له:
ـ ابن عمي هل تريد شيئاً من هنا؟
ـ والله إذا أمكن كم كيلو جبنة بلدي.
ـ من عيني، وغيره؟
ـ ويا ريت تطلع نسخة من شهادة ابني وتصدقها وتجيبها معك.
ـ من عيني، وغيره ابن عمي؟
ـ بس لو تدفع قسط البيت اللي اشتريته في البلد وأنا أعطيك المبلغ هنا.
ـ خلاص اعتبر كل شي صار.
وصل سعيد إلى لندن برفقة ابنه وكالعادة استقبلهم ابن عمه في المطار وأخذهم إلى الفندق بنفس (السيناريو) ولكن هذه المرة قال سعيد لابن عمه:
ـ أدخل معي كي نُسوي حساباتنا.
ـ ولو 40 جنيه لا تستحق الدخول.
ـ لا تفضل معي لو سمحت.
دخل الجميع إلى الغرفة وأخرج سعيد ورقة كبيرة وقال:
ـ هذا كشف حساب مديونيتك يا ابن العم: عندك 5 كيلو جبنة بلدي 200 جنيه إسترليني!
ـ الله أكبر 4 كيلو جبنة 200 جنيه؟ لماذا؟ هل هي جبنة ذهبية؟
ـ لا ولكن احسب معي:
1 ـ مشوار إلى السوق ذهاباً وإياباً 50 جنيه إسترليني ـ نفس تعريفتك ـ .
2 ـ اختيار الجبنة الأفضل نوعية 50 جنيه ـ أتعاب استشارة تقنية ـ .
3 ـ تغليف والتأكد من الكيفية 50 جنيه.
4 ـ نقل دولي بالطائرة؛ كل كيلو 10 جنيه ـ التعريفة الدولية هي 30 جنيه ـ بس أنا عملت لك (ديسكاونت)!! و(بيزنس إز بيزنس) يا ابن عمي.
ارتعب ابن عم سعيد وقال:
ـ وغيره ابن عمي؟
ـ عندك 200 جنيه مصاريف نسخة شهادة ابنك!
ـ أوف 200 جنيه! لماذا؟
ـ احسبها: مشوار على التربية 3 ساعات، ومشوار للخارجية 4 ساعات، ومشوار على السفارة 3 ساعات، وأنا حسبت لك ساعة العمل فقط 10 جنيهات يعني 100 جنيه إسترليني، وعندك مصاريف تغليف ومراجعة البيانات وشحن دولي كمان 100 جنيه إسترليني، وحياتك هذا نص السعر، وأنا عملت لك (ديسكاونت) و(بيزنس إز بيزنس)!!!
ـ وغيره؟
ـ عندك قسط البيت 500 جنيه إسترليني!
ـ ليش 500!؟ كل القسط 100 جنيه إسترليني؟
ـ صح بس عندك فوائد المبلغ بنسبة 10% أولاً، وعندك خدمات مصرفية، وعندك استشارات قانونية وإصدار إيصال لصاحب البيت، وتأمين على المبلغ ضد السرقة أثناء الطريق وكل هذا أنا حسبته لك فقط 400 جنيه، يا بلاش والله عاملك (ديسكاونت) و(بيزنس إز بيزنس) يا ابن عمي يا دمي ولحمي!! عندك فاتورتك بمبلغ 900 جنيه، أخصم منها أجرتك الأربعين جنيه، وإلا أقول لك خليها 50 جنيه علشان البقشيش!! وأعطني الباقي لو سمحت!!
تراجع ابن العم وقال:
ـ ولو يا سعيد إحنا ليش بينا هذا الكلام! نحن أهل وأخوة، وما قلته لك عن أجرة التاكسي كان مجرد مزحة بريئة، وكنت أنوي أن أعطيك فكرة فقط كيف تجري الأمور هنا لا داعي أن تزعل مني.
ـ آسف (بيزنس إز بيزنس)!!
وكل (بيزنس) وأنتم بخير
واقرأ أيضاً:
آخر خبر: خصخصة جامعة الدول العربية / مقال خمس نجوم