ذكرى تعود إلى عشرين عاماً أو يزيد.. مقصف كلية الآداب في جامعة دمشق تحديداً.. دفعني الحنين إلى فنجان قهوة.. كم أحببت هذا المكان من قبل.. كان استراحة جميلة لطلاب كلية الآداب لشرب الشاي وتناول الشطائر الخفيفة والرخيصة بين المحاضرات، وكثير من رواد المقصف من خارج الجامعة حيث يأتون لغايات شتى..
في هذا المكان وفي عام 1987 كنا في السنة الثانية في قسم الصحافة.. وفي نفس المكان قرأ إسماعيل عبد الحي مرة في دفتري:
عصفور حلمي الآن يغسله المطر
وقطرة فقطرة..
تبتل يا قلبي ويأخذني سفر
محبوبتي أشعلت عينيها بنيران السهر
زرعت في شفافها براعم الزهر
كتبتها.. غنيتها.. طوحت باسمها في الريح والمطر
لم أنتبه لذلك لكنه فاجأني في اليوم الثاني -وحين التقينا قبل المحاضرة-.. يردد الكلمات وقد حفظها بصماً حتى نهايتها.. ثم قال.. فضحتها يعني؟!
قلت له ماذا تقصد؟؟ قال إذاً ماذا تعني بـ طوحت باسمها في الريح والمطر آ ها (المعنى في بطن الشاعر..)
بعد المحاضرة دخلنا مقهى الجامعة بهدف شرب الشاي وتناول شطيرة زعتر أو جبنة كانت يومها بليرتين ونفعلها مرة واحدة في اليوم بسبب قلة المصروف.. هذه المرة جلس إلى جوارنا رجل وابنته بمظاهر ريفية واضحة.. وقد جلسا إلى طاولتنا بسبب عدم وجود طاولة شاغرة بالكامل.. وبعد أن استأذن قلنا له أهلا وسهلا ودون تعارف.. قدمنا لهم الشاي دون أن نتوغل في الحديث معهم قال أنه قادم مع ابنته لتتم تسجيلها لهذا العام في الجامعة.. لكن عينا الفتاة الزرقاوان في الوجه الفاتن جعلتا عيني وعيني صديقي كالنحل الذي اجتذبته الأزهار (العينان الرائعتان).. كتبت بيتين من الشعر على ورقة أعطيتها خلسة لصديقي..
عينان زرقاوان ينعس فيهما لون الغدير
أرنو فينساب الخيال وينصت القلب الكسير
همس لي صديقي قائلا: يا أخي أنت شاعر! شاعر! ظاناً أن البيتين لي وهما لبدر شاكر السياب..
همست له : الشعر أمامك وبين عينيك..
قلت له ما أطيب هذا الشاي الثقيل.. نصف لتر من الشاي بنصف ليرة ياللروعة.. يا أخي أرخص من بيت أهلي صدقني..
حسدنا أنفسنا على هذه النعمة حيث أنه بعد أسبوعين صار كوب الشاي بحجم "الكشتبان " وبليرتين..
كانت الفتاة تنظر إلى لا شيء في البداية في أقصى المقهى.. كتبت لصديقي
أيها الظبي الذي شردا.. تركتني مقلتاك سدى
هز رأسه ثلاث مرات جيئة وذهاباً...
ثم كتبت له في منتصف الصفحة..
لـــو تـعــلــمــينَ بــمـا اجـــن مـــن الهــوى
لــعـــذرتِ أو لــظلــمــتِ إن لــــم تــعــــذري
هذه المرة ابتلع ما تبقى من كأس الشاي كاملاً.. كان إسماعيل يبحث عن أي حب يومها وكأنه لا يدرك كم هو وسيم..
كانت مهارتنا في إدارة حوار معهم محدودة رغم أننا كنا ندرس الحوار الصحفي كمادة مقررة فساد الوجوم على الجميع سوى هذا الحديث الخافت بيني وبين صديقي فكتبت له في أسفل الصفحة:
ما أنت وما الـــوعـد الذي تـعديـنـني
إلا كــبــرق سـحــابــةٍ لـــم تــمـــطـــرُ
التفتت الفتاة مرة واحدة إلينا ولكنها لم تنظر إلى بل إليه.. وسيم جداً فارع الطول عريض الصدر كأبطال الرياضة.. ويصلح للسينما وبالأمس وصفه جمال مشاعل حين ذكرناه أمام شخص آخر.. إن محمود عبد العزيز ليس شيئاً إلى جواره.. قلت له أنا يمكنك أن تعتبرني يحيى الفخراني.. عفواً بدون عيون زرق..
انتبه والد الفتاة بأن مغازلة توشك أن تحدث بين ابنته وصديقي فنهض قائلا لابنته هيا بنا وودعنا بأدب قائلاً شكراً على الشاي وقبل أن يخرجا من الباب التفتت ابنته وكنت أنا وصديقي نشيعهما بحسرة.. والحقيقة أنها لم تنظر إلي أو إلينا بل إليه.. ولكن هذه المرة لم أكتب ولكني أنشدت بصوت عال كاد أن يسمعه أهل الطاولة المجاورة..
لا تــحـــسَــبـي أني هَـجــرتـــك طــــائــعــــاً
حــــدثٌ لــعـــمـــرُكِ رائـــعٌ أن تــــهــــجــري
ثم قال لي إسماعيل مرة أخرى: شاعر أنت يا أخي شاعر شعرك يجنن ولكن ما شاهدناه أحلى بكثير (أنت معي أليس كذلك)
قلت له ابصم لك بالعشرة .. وضحكنا بصوت عال..
واقرأ أيضاً:
حلم بعد الأربعين.. ما رأيكم / داونلود مشاركة / أحزان يعقوب.. وقميص أحمد