لم تكد أنباء مذبحة الإيغور تتوارى في وسائل الإعلام حتى مر خبر عاجل عن مقتل ناشطة روسية كانت تدافع عن حقوق الشيشان، وهي التي جاء مقتلها حلقة في سلسلة التصفية لشخصيات من نساء ورجال دافعوا عن نفس القضية بنشر كتب وتقارير، وتنظيم حملات استنكار للمذابح الوحشية التي تعرض لها شعب الشيشان على أيدي الروس طوال سنوات مضت!!
ومنذ أسابيع كان الاحتفال بذكرى مذبحة "سيربيرنيتسا" التي استشهد فيها بضعة آلاف من مسلمي البوسنة أواخر القرن العشرين، وأسابيع أقل تفصلنا عن استشهاد مروة الشربيني التي تلقت بضع عشرة طعنة في قلب ساحة محكمة ألمانية ذهبت تشتكي إليها من إهانات مجنون ألماني بالتعصب، والذاكرة حبلى بالأوجاع والمذابح والكوارث ونزيف الدم، وأسماء الضحايا ووجوههم، وأصوات الصراخ من العراق وفلسطين كما البوسنة وكشمير والصين، ولا نهاية للقائمة!!
من منا يعرف شيئا معقولا عن مأساة شعب الإيغور، أو أصولهم وقصتهم؟!!
هل ما زال أحد يذكر أهوال العدوان على غزة منذ شهور؟! أو العدوان على لبنان منذ سنوات؟!
هل أصبحنا نقاوم حتى الذكريات؟!
لمن نشكو مآسينا؟! ومن يصغى لشكوانا ويجدينا؟!!
وأنا من جيل تفتح وعيه على كلام غير دقيق يحتاج إلى كثير ضبط، وخلاصة هذا الكلام أن المسلمين وحدهم هم الضحايا، وأن كل الأرض ضدهم، وبالتالي فإنه لا فائدة ولا أمل وكل مسلم إما أنه مقتول أو ينتظر نحبه!! وهو كلام محبط جدا، وكاذب جدا!!
والحقيقة أن من يقتل مسلما إنما يفعل ذلك بدم بارد لأن دم السملم رخيص مثل دماء كل المستضعفين في الأرض في رواندا أو بنجلاديش، وبقية مساحات الخريطة الفقيرة في عالم لا يرحم ولا يسمع غير صوت القوة!!
والعجيب هو هذا الضعف الذي حفظنا فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقول:
"يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها قيل يا رسول الله أمن قلة بنا؟ قال لا ولكنكم غثاء كغثاء السيل تنزع المهابة من قلوب عدوكم منكم ويوضع في قلوبكم الوهن قالوا يا رسول الله وما الوهن؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت" أو كما قال صلى الله عليه وسلم. العجيب أن تكون هذه الأمة بمواردها الروحية والثقافية والمادية بكل هذا الضعف!!
والعجيب أن الجهاد في الإسلام ـ كما أفهمه ـ مشروع للدفاع عن النفس، وعن المستضعفين في الأرض، واستباحة دماء بعض المسلمين أو دماء المستضعفين تعني تكليفا لكل فرد من هذه الأمة المستكينة الغافلة أو المتغافلة بالحركة فورا جهادا لا يتوقف حتى ينتصر وانتصاره هو وقف العدوان، وحقن نزيف الدم الرخيص!!!
هذه هي ذروة سنام الإسلام لمن انتسب له أو أراد تطبيقه، ولا أدري والله ماذا يقول الدعاة والوعاظ؟! ولا أدري ماذا يردد الإعلام والتعليم من لغو وثرثرة؟! ولا أدري عن كلام المجالس أو همس الشات والمكالمات؟! أو الفرجة بدم بارد على النشرات والصور؟!
كيف يتجاهل كل هؤلاء وأولئك الجهاد، وهو ذروة سنام الإسلام، بل وغياب فعل أو تغييب مفهوم "الأمة" نفسه!! وتفكيك الروابط بين ومع المستضعفين؟! والدماء الرخيصة في أعناقنا جميعا!!
لا أدري من أين أتينا بكل هذا الخور في الهمة؟! وكل هذا الخبل في الرؤية؟! والعجز عن الفعل الرشيد؟!! وتفويض الأمر لأنظمة فاشلة جدا؟!
عشرات الجهود تتحرك في العالم مثل إصدار تقارير معقولة في إدانة أفعال إسرائيل سواءا في حرب تموز على لبنان، أو العدوان على غزة!!
هذه التقارير تصدر عن هيئات محايدة أو شبه محايدة، ومعها أيضا جهود تستهدف ملاحقة المجرمين الصهاينة، أو مقاطعتهم أكاديميا واقتصاديا، ولكن كل هذه الجهود تبدو مثل صرخة في واد أو نفخة في رماد، لأن الأمة مفككة لا تتحرك وغافلة لا تدرك دورها لأن في عقلها كسل وخبل، وفي عزمها خلل، وفي أعصابها وعضلاتها وسواعدها شلل!!
وأنا من جيل شهد تشويها منظما لمصطلح الجهاد وممارسته، حتى صارت الكلمة تهمة أو لفظا مبتذلا رغم أولويته ومركزيته في بناء وبنية الإسلام كدين وواقع وأمة وتاريخ ومستقبل!! انفصلنا عن الوعي بأبسط قضايانا، وعن الوعي بكيفية وجدوى مناصرة ضحايانا، وانفصل بعض من يجاهدون بالساعد والسلاح عن بقية عموم الأمة، رغم إلحاحهم على غير ذلك، وانتصبت أركان وديكورات سيرك كبير ومرعب بحجم الأرض كلها، وتوالت الفقرات والألعاب من خفة اليد واللسان، واللعب بالبيض والحجر، وترويض الأسود والنمور إلى السير على الحبال، والرقص مع الكلاب، وامتطاء الخيول!!
سيرك كبير أسموه الحرب على الإرهاب، وما زال يشهد تلاعبا باللغة والوقائع والعقول، ويشمل استخدام الدهاء والخداع كما الطائرات والقنابل والمدافع في حرب واضحة لكل من يدرك أو يفهم، والأمة ساكنة ـ كما يبدو ـ إلا من حركة هنا، أو تشنج هناك!! لاهية عابثة إلا من ومضات!!
والعجيب أن خط الانتصارات التي تحققت بالفعل صار يحتاج إلى إثبات وجهة النظر القائلة بأن ما حصل في لبنان 2006 كان نصرا نوعيا للمقاومة اللبنانية، وفضيحة للجيش "المرعب" الإسرائيلي!! ونفس الشيء بالنسبة لما حصل في غزة، ولكن جمهور أمتنا في السيرك ما زال مأخوذا بالألعاب يفغر فاه، ويبدو أنه مسلوب العقل والوعي لا يعرف الفارق بين الأفاعي والخراطيم البلاستيكية، ويصر على عدم رؤية اللاعبين، والخيوط محركة الدمى التي صارت تملأ حياتنا، وتتحكم فيها!!
ويبدو الجميع مفضلا لعبة (ع) والأخ (ع) كان زميلا لي في عملي، وجاءني متأثرا جدا بما كان يحدث وقتها للمسلمين في الشيشان، وكان يتابع ما يكتب من تقارير حول الأهوال والمذابح، ومنه عرفت عن إحدى الناشطات الروسيات، وهي صحفية ومراسلة أصدرت كتابا عن فظائع أعمال الجيش الروسي في الشيشان، ثم أصدر بوتين نفسه ـ كما يقال ـ قرارا بتصفيتها لتقتلها المخابرات هناك بدم بارد، ويتجاهلها المسلمون هنا بدم أكثر برودة، ومثلها كثيرون بالمناسبة يتعاطفون مع حقنا، ويشفقون علينا من القتل والذبح والقصف وانتهاك الأعراض ثم لعلهم يكتشفون بعد حين أنهم في جانب الحق نعم، وجانب الصواب والشرف، ولكن أغلب المنتمين لأمة رفع الظلم، ورد العدوان صارت لهم أدمغة لا تريد أن تعمل، وأفئدة لا يشعرون بها، وعيون لا يبصرون بها، وآذان لا يسمعون بها!!
جاءني (ع) ثائرا لما يقع للشيشان، فقلت له: وما العمل؟!
قال: الجهاد، ليس من حلٍّ سواه!!
قلت: هل نويت السفر للقتال في صفوف الشيشان، قال: أهلي يرفضون،
قلت: في بقية أنواع وألوان الجهاد فرصة ومتسع لمناصرة كل مظلوم.
قال: لا جدوى، ولا حل إلا بالقتال.
تأملت هذا المنطق الذي رد به البعض حين كتبت عن "الجهاد المدني"، فصرخوا وكأنني أريد استبداله مكان القتال كطريق من طرق الجهاد!!
وأحدهم لم يرابط في ثغر ولا أطلق طلقة غير الكلام والكليشيهات، وقوالب الألفاظ والمصطلحات، والشغب على ما لا يفهم، والاعتقاد بأنه يفهم!!
وهو منطق القاعدين إذ ليس مقبولا أن يكف البعض يديه عن الجهاد عسكريا كان أو مدنيا ثم يزعم أنه يقوم بدور مثل دور الرسول صلى الله عليه وسلم حين أمره القرآن "وحرض المؤمنين على القتال" !!
وتبقى ميادين الجهاد مفتوحة جميعا تفتقر لمن يعمل ويتضامن ويتفاعل ويناصر ويحشد الجهود ويعبئ العقول ويستثمر الطاقات ويلاحق القضايا ويتواصل مع دعاة العدل والحق وأنصاره في كل أرجاء الأرض، ولا مصداقية لمنطق: أقول ليفعل غيري!!
عدد المسلمين في العالم أكبر من عدد أهل الصين، وأحدث الإحصائيات تقول أنه من بين كل خمسة في العالم يوجد مسلم واحد على الأقل، فهل تحس منهم من أحد، أو تسمع لهم ركزا؟!
والبداية بسيطة للغاية: تصحيح المفاهيم، وتوصيل المعلومات، وتضافر الجهود.
الجهاد أنواع وأشكال وأساليب، وفي العالم الحديث أسلحة كثيرة ومتطورة ورأسمال بشري واقتصادي وثقافي وحضاري نمتلك منه الكثير، لكنه يحتاج إلى تشغيل ووعي وتحريك ومسئولية فردية وجماعية.
جماعات من أمتنا تخوض حروبا مجيدة ينبغي أن يدركها ويدري بها كل مسلم ويتضامن فيحمد الله ويدعو للمجاهيدين، والجهاد فرض عين على كل مسلم ومسلمة في عالم يذبح الضعفاء بدم بارد، ومن لا يسعفه مكانه أو ظروفه لقتال الساعد والسلاح فإن في الأسلحة الإعلامية والعلمية وغيرها متسع لحركة أمة إما أن تتحرك جميعا أو ستذبح فرادى وجماعات!! وتحمل عار كل مذبوح أو مضطهد مهما كان لونه!!
عار على كل واحد فينا ألا يدرك خريطة العالم الذي نعيش فيه، ولا يعرف مواضع النزيف حيث يسيل الدم الرخيص للمسلمين أو للمستضعفين!!
ليس لدينا ترف التشاؤم ولا وقت للتفاؤل، إنما العمل وحده هو الممكن والمتاح والمنشود لوقف نزيف الدم.
لابد أن تتحرك الأمة كلها، وتجاهد كلها لتحيا كلها، فإما حياة كريمة تسر الصديق، وإما ممات يغيظ العدا، ولا عذر لقاعد!!!
"وما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا" كما قال أفضل الخلق صلى الله عليه وسلم، لكن نريده هذه المرة جهادا واعيا يتضافر فيه الحماس والعقل، والخبرة والجهد، والاحتفاء بالنصر مع الاستعداد الرشيد المحكم للجولات القادمة، وإن كانت كل أيامنا قد صارت جهادا حتى يكاد المرء يرفع شعارنا: كل يوم عاشوراء، وكل أرض كربلاء!!
إن الدماء التي سالت على أسفلت شوارع طهران هي دماء إخواننا وأهلنا في إيران، ولو أخطأ فيهم هذا الطرف أو ذاك الفصيل فإن تصحيح الأخطاء لا يكون بالتجاهل ولا التنابذ ولا التغافل!!
لقد تسلمت مصر منذ أيام قيادة تجمع هام اسمه دول عدم الانحياز، وكانت في الأصل فكرة بدأها الرئيس عبدالناصر بمبادرة مع الهند وأندونيسيا، ودوائر مثل هذه تبدو مساحات للعمل لمن يبحث ويفهم ويريد، ولقد اتسع الخرق على الراقع فلا الدول صارت قادرة على درء المفاسد (هذا إذا أرادت أصلا) ولا جهود الجماعات والحركات صارت كافية، وهذا ندائي للجميع: يا أمتي تحركي... يا أمتي أفيقي... يا أمتي أنت الكارثة والحل!!
واقرأ أيضًا
على باب الله: إسلامنا/ على باب الله: التقرير