رجل في منتصف العمر، يبدو طيبا يقظا، قال لي بعد أن ناولني ما طلبت من محله المتواضع (سوبر ماركت صغير)".. أنا متابع لأغلب حواراتك، وأكاد أحفظ بعضها"، سألته أي حوارات تعني؟ فقال كلاماً طيباً، فشكرته، وسألته مثل ماذا؟ قال، مثل قولك "أنا مش فاهم ليه الناس حريصة قوي كده على حياة همّا ما بيعيشوهاش من أصله؟!"، تعجّبت وسألته: "متى كان ذلك؟" قال: "منذ عامين، أيام هيصة إنفلونزا الفراخ".
تعجبت أنني نسيت، مع أن نفس الخاطر قد خطر لي بمناسبة هذه الاحتفالية الإعلامية الإرعابية الإلهائية الجارية حول ما يسمى "أنفلونزا الخنازير"، وانصرفت أفكر.
أنا لا أعرف من الذي يقرأ لي، أو يسمع لي، أو يشاهدني، وكيف تتبقى لديهم مثل هذه الأقوال التي أنساها فيذكرني بعضهم بها هكذا. ثم إنني بصراحة متهم بالغموض، أو التناقض، كاتباً، حتى أنه لا يصبر على قلمي أكثر من يدعونني للإسهام عنده، إذ سرعان ما يتخلص مني دون شكر أو إنذار، حدث ذلك في الصحف القومية تليدها وحديثها، وفي صحف المعارضة، وأنا لا أعرف ما الذي صبّر الابن إبراهيم عيسى عليّ حتى الآن، لعلها ذكريات العشرة القديمة منذ الإصدار الأول للدستور.
وجدت أن ما وصل هذا المشاهد اليقظ من سنتين ينطبق الآن أكثر على ما يسمى أنفلونزا الخنازير، بل وعلى ما يسمى فيروس "س" الذي صدعونا به ليل نهار، مع أنه لم يستدل على وجوده شخصياً حتى الآن، اللهم إلا إشارات لأجسام مضادة غامضة افترضته فرضاً، لن أدخل في تفاصيل تفتح علىّ النار من المختصين جداً جداً، فأقصر حديثي على خبرين حديثين:
الأول: "أعلنت منظمة الصحة العالمية رفع درجة التحذير الخاصة بمرض أنفلونزا الخنازير إلى أقصى مستوى (الدستور 12 الجارى)".
الثاني: وصول ثمن عبوة عقار "التاميفلو" باعتباره العلاج المناسب لهذا المرض المزعوم، إلى 800 جنيه مصري، تنخفض إلى 600 أو 400 حسب مدة الصلاحية! (الشروق 15 الجاري أيضاً)، (والتجارة شطارة! خاصة والمصابين حتى الآن من القادرين في الزمالك والجامعة الأمريكية!! إنفلونزا ذواتي!!)، بصراحة لم يتوان وزير الصحة عندنا، من التصريح تلو التصريح أنه: "ياجماعة مش كده، المسألة مش مستاهلة".
الأنفلونزا هي الأنفلونزا، وهي التي كنا نحمد الله حين نصاب بها فيقول أحدنا للآخر: "دي شوية انفونزا وحاتعدي"، وهي هي التي كان يعتذر بها "أحمد بدير" لسهير البابلي في مسرحية ريا وسكينة، حين يمطرها برذاذ عطسته، ويقول لها ليطمئنها: معلشي!! "الفلوِزّة". نعم الأنفلونزا هي الأنفلونزا لكن إذا توحش فيروسها أحياناً، أو انتشر وباءً –الأمر الذي لم يحدث ولن يحدث حالاً- فلن تصده تلك الكمامات العبثية التي تتصدر الصفحات الأولى على وجوه الأطفال الأبرياء والشيوخ المعممين، وأنصار موسوي المتظاهرين، حتى يسرا وطلبات الثانوية العامة، وكأن هذه الكمامات هي الجدار الحاجز ضد الفيروس الطائر؟؟ نتلهى بها عن الجدار الحاجز العنصري في فلسطين.
* ليس أغلى من الصحة، لكن، هذه ليست حملة للحفاظ على الصحة، وإنما هي حملة للإلهاء بالمرض عن حقيقة الصحة الإيجابية (بتعريف منظمة الصحة العالمية نفسها).
* ليس أغلى من الحياة، ولكن لعلنا نعرف النكتة التي حكاها أحدهم عن مأزقه في الغابة أمام هجمة أسد جائع، حتى زعم أن الأسد أكله، فتعجب السامع قائلا "..ما أنت لسه عايش اهه"، فأجاب الراوي، وهي دي عيشة دي يا حمار؟؟ (بايخة!!!، أعلم ذلك، لكني حكيتها لعلاقتها بما حكاه لي صاحب السوبر ماركت الصغير، "لماذا نحرص –هكذا- على حياة لا نحياها أصلاً".)
* ليس أرعب من الموت، لكن هذا الموت الذي لاح لبضع عشرات في أمريكا، وثلاثة في الزمالك شفوا بالسلامة، واثنين في الجامعة الأمريكية ما يزالان يعطسان حتى استهلك كل منهما علبة كاملة من المناديل الورقية (يا حرام!)، هذا الموت المزعوم القادم مع الخوجات، نفخوا فيه هكذا لعله ينسينا الملايين الذين يموتون جوعاً أو يقتلون غدْراً في غزة والعالم، والآلاف الذين يقتلون استباقاً في منازلهم بشكل جماعي للوصول إلى منابع البترول، والباقين الذين يموتون بالأمراض الأخطر والأكثر رسوخاً وإزماناً وانتشاراً، يموتون لأنهم لا يملكون ثمن الدواء الذي يتصاعد سعره لإثراء شركاته (أقوى لوبي في الكونجرس الأمريكي) وهي التي تحرّك الحروب كما تحرك الأسعار، وتبرمج العلماء، وترشو منظمة الصحة العالمية.
في كتاب "جاك إيلول" عن "خدعة التكنولوجيا" (ترجمة د. فاطمة نصر) تفاصيل مهمة عن دور تكنولوجيا الإعلام في تحويل انتباه عامة الناس إلى ما لا يهمهم، حتى يتفرغ الكبار لإنهاء حياة أغلب البشر بمعرفتهم لصالح تكديس أموالهم، وبقاء صفوتهم دون غيرهم.
انتباه!!.
نشرت في الدستور بتاريخ 24-6-2009
اقرأ أيضا:
تعتعة: مايكل جاكسون، و.. باراك أوباما!! (1من2) / اختزالٌ لا يليق برمضان وصومه! / جاكسون: الجسدُ المبدِع، والألم الراقص!! (2من3)