أدركت الآن أكثر.. الكثير من المعاني والأسرار في العلاقة بين قميص يوسف الابن، ويعقوب الأب، ولا أدري هل احتفظ يعقوب عليه السلام بالقميص الذي كان عليه الدم المزيف كذكرى دائمة من يوسف، تحرك العبرات في أعماق الصدر المكلوم بالفراق، ليصل الحزن مداه حين يقول: "وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ" (يوسف:84).. الحزن على الفقيد الغالي، الطفل الجميل الذي يأخذ بالألباب، العذوبة المفقودة التي كانت تمشي وتتحرك هنا، وأليس غريباً أن يعقوب عليه السلام لم يقل وأسفا على أخي يوسف الأكبر حين فقد، إذ أن المشاعر الدفاقة تكون على الصغار أعظم، وربما كان للقميص الذي كان يرتديه الصغير تأثير دائم وعظيم على قلب الأب العطوف.. فربما هو معلق في مكان ما، وربما أخفاه كمنديل يشمه كلما هبت نسائم الشوق على قلبه، ولا أدري إن كانت رائحة الدم المزيف قد طغت على الرائحة العبقة لجسد يوسف والكامنة في قميصه.. وأعتقد أنها لم تطغ لأنها مزيفة.. وليبق القميص كلمة السر بين يوسف وأبيه حيث أنه بمقدار ما كانت رؤيته في البداية ألماً ووجعاً ولوعة، كانت في النهاية شفاء وفرحاً وبشرى.
كل هذه الأفكار والمشاعر انتابتني حين وقعت عيناي على قطعة الملابس الصغيرة لابني الصغير أحمد الذي غاب عني منذ شهر حين عثرت عليها بين بعض الملابس التي تركتها زوجتي دون كي بسبب ضيق الوقت يوم سفرها.. أحمد الطفل الذي ملأ حياتي لفترة من الزمن هنا بعذوبته وشقاوته، وجميع تفاصيل حركته ومن ضمنها بعض الحركات التي يحاول تقليدي في ممارساتي العادية كإصراره على شرب الشاي لأني أشربه، أو الدواء، أو محاولة لبس حذائي، وجريه ورائي حين أخرج وبكائه في حالة عدم اصطحابه معي.. وتخبرني أمه كم يشعر بالضيق في خروجي ولمدة ليست قليلة، وانتظاره لي عند الباب حين موعد عودتي وكأنه قد تولد في جسمه منبه يحس بالزمن في هذا الموعد.
لقد وضعت قميص أحمد على سريري وفي كل يوم حين آوي إلى النوم أضمه إلى عيني وأنفي لأجد ريحه مازال نقياً وأقول.. وأسفاه على فراقك يا أحمد وكم أفتقدك يا حبيبي.. ولربما أرقت له في كل يوم دمعتين أو أكثر.. وفي القميص دواء عظيم للقلب المشوق.. وبشرى بأن أراك قريباً إن شاء ربي..
واقرأ أيضاً:
داونلود مشاركة / عينان زرقاوان / أنا وجيراني والاغتراب والسكر