لنتصور خطيبا يلقي درسا دينيا شيقا في جامع كبير، ثم بين الفينة والأخرى يطلب من الحضور أن يأخذوا استراحة قصيرة، وأنه سيعود بعدها بقليل.. الأمر غريب طبعا، ولا يحدث لحد علمنا لا في الجوامع ولا في نوادي المحاضرات اللهم إلا ما رافق ذلك من عرض الكتب والمواد السمعية البصرية..
حسب مسئول قناة ما، من الأفضل تقديم فاصل بين فينة وأخرى لكي لا يمل المشاهد! هكذا عطفا على المشاهد المسكين.
خلال برنامج ديني في رمضان لقصص أحد الأنبياء، يبرمج فاصل -إشهاري طبعا-، مكثف، ممل، يستغبي المشاهد، يستغفله استغفالا؛ حيث يتكرر نفس الإشهار أكثر من مرة، وبطريقة تثير الامتعاض، وطبعا لافتتاح الإشهار لا بأس من ابتهال ديني يذكر فيه الله تعالى - هكذا لإضفاء بعض الشرعية الدينية.. لجلب مشاهدين أكثر..
بل أن هذه الشرعية ابتدأت مع تقديم برنامج لأشهر الدعاة الشباب الذي طور الخطاب الديني، وأزال الحواجز التي كان يحدثها بعض الشيوخ ينهم وبين الآخرين، ملامسا قضايا الشباب ومخاطبا انشغالاتهم.
كان اختيار القناة موفقا طبعا، نسبة المشاهدة ترتفع، وهذه هي الفرصة لبيع أكثر.. ويظهر جليا حرص القناة على تقديم إشهارات مكثفة في ساعات الذروة هذه وبشكل مقصود، ومع ذلك يتوزع ذهن المشاهد بين قصة موسى وفرعون، وآسية والماشطة والسيد الخضر... في القرون السالفة، وبين العقار والشوكولاتة والجامعة الراقية والأجهزة الإلكترونية وغير ذلك من مواد الاستهلاك.. بل يحدث خلال البرنامج أن يزيغ بصر المشاهد بين إعلانات مكتوبة على شريطين أبيض وأصفر وليس شريطا واحدا كما كان من قبل، ماذا يفعل المشاهد؟ هل يستمع لقصة النبي عليه السلام أم يقرا الإعلانات والرسائل والدعوة إلى الاتصال.
سيرد مسئول القناة، أنا تاجر بطبعي، المسألة مسألة حسابات، أقدم لكم سلعة -مادة دينية مشوقة مقابل عرض خدمات إشهارية- والقناة تعيش بالإشهار -ولو كانت البرامج دينية- لا بأس -بل هذه فرصة لا تعوض، محاضرنا طُعم لا نظير له، الشاب الدينامكي المتحرك،يتحدث بعواطفه، بعيونه، بأعضائه، مظهره قريب من فئة الشباب، لا لحية كثة، لا جلباب طويل ولا طاقية على الرأس. ولا يقسو على النساء، بل يخاطبهن خطابا رقيقا خاصا فيه تشجيع وتدرج..
أين نجد كل هذه المواصفات؟
ويبدو أن قنوات عقارية أو اقتصادية محضة احتضنت أيضا برنامج الرجل وشرعت في تقديم المادة الدينية الشيقة.
فماذا بعد ذلك؟
على أي، ألا يمكننا طرح السؤال المسكوت عنه، حين يختلط الوعظ والإرشاد بالتجارة والاستهلاك، وقد نهى الرسول الكريم عن البيع بالمساجد..
أستحضر دائما ذكريات في صغري، عن ذلك الحكواتي في أيام رمضان الذي كان يتقن فن سرد حكايات الأزلية -حمزة البهلوان،سيف ذو يزن- وكان بارعا في أسر الحاضرين، وعندما يصل إلى نقطة مفصلية في الحكاية، يتوقف ليطلب مصروف الإفطار ليواصل الحكي.. لا أدري ماذا أقول.. ما الفارق؟
الخصخصة والعولمة أحدثت كل هذه المنافسات والاستقطاب فأصبحت القنوات الفضائية -ولو لم تكن صاحبة رسالة صادقة- تستقطب من قد يزيد في نسبة مشاهديها لكي يوفر لها حصة إشهارية أفضل.. وقد تدخل اختصاصا مغايرا لتوجهها، فمن المال والأعمال إلى الدين والوعظ..
ولم يقف الأمر عند هذه الحد، بل تتعاون القنوات الفضائية دينية وغيرها مع شركات الاتصالات الهاتفية، من أجل تنظيم مسابقات دينية؛ والعنوان مغر لحد الآن، وسيزيد إغراء إذا علمنا أنه من تنظيم الشيخ.. غانم.. مثلا: الأسئلة أسهل من السهولة -من هو أول الخلفاء الراشدين-، والسؤال فيه اختيار "أبو بكر، عمر.." ابعث بالجواب على رمز بلدك إلى..
تتوزع القناة بين عرض الأواني المنزلية والدروس الدينية متلقية مكالمات الناس في تفسير الأحلام خصوصا إن لم يكن صار خصوصيا..
ماذا نقول عن هذا؟ نتساءل فقط هل هي خدمات هاتف ليس إلا، تجارة حلال. فالفائز سيذهب إلى العمرة -إلى مكة المكرمة- والقناة لم تعمل سوى على جني مداخيل الرسائل القصيرة وأعطت منها لأحد المحظوظين بالقرعة، بكل نزاهة،ففي الأمر شيوخ تقاة.
ما هذا؟ هل الأمر طبيعي؟ هل يجب أن يتكلم احد أم أن الجميع مستفيد بدرجة ما ولا أحد متضرر من بعض مليمات الرسائل القصيرة.
في الواقع التساؤل هنا هو هذه الحمى من طرف هذه القنوات للإشهار وتنشيط الاتصالات الهاتفية، باسم البرامج الدينية الهادفة والدعوة والتربية والتثقيف.
القنوات الأخرى تعلن عن نفسها ترفيهية محضة، قناة أو فتاة -عفو- ترقص وتغني، وتغري المشاهد بالمشاركة والجميع يعلم أن لا أحد يربح، وأن الغرض هو تسجيل أكبر عدد من المكالمات الهاتفية.
ماذا يحدث في مسابقة الشيخ فلان في تلك القناة مثلا، يشارك الجميع، يساهم بقدر من المال -مكالمة هاتفية- للقناة لتجمعه وتوزع حصة منه -عمرة أو رحلة على أحد المشاركين.
من هذه القناة، أهي شركة مساهمة، مفوضة لجمع أموال الناس وتوزيعها،..
ماذا قدمت كخدمة تستحق عليها هذه الأموال - مسابقات ساذجة لا تزيد شيئا ولا تثقف، ليس فيها إلا تشجيع الشيخ الملتحي الوقور على حث المشاهدين على المشاركة والتبشير بعمرة مباركة.
الحوار مفتوح، نرجو تقديم الآراء المختلفة واستجلاء حقيقة هذه المسابقات والبرامج، كي لا نسقط في فخ العولمة والإشهار والحس التجاري المحض.. يكفينا ماكدونالد حلال، مكة كولا.. لا شيء سلم من العولمة... حتى خطبة مفيدة لا نستمتع بها دون إزعاج أو تنغيص؟
واقرأ أيضاً:
الكوميديا في رمضان: لماذا هذه الهزالة؟ / الإيمان بالله يحدث تغييرات في الدماغ