العديد من فناجين القهوة تنهر النوم بعيداً عني. قهوة سوداء كأيامنا التي لا تفلح شمس ولا بدر في إنارتها، قهوة مرّة كأعيادنا وصلواتنا نشربها على عجل. القهوة لا تناسبني، لكن المناسبة تفرض عليّ المزيد منها؛ ففي مجالس العزاء عليك أن تشرب وتستمطر الرّحمة وتُلبِس وجهك التأثُّر والوقار، تجلس لبعض الوقت ثم تغادر... أود لو أغادر، فما عدت أطيق مجلس عزائنا الطويل: بطول حياة واحدنا، بإصرارنا على حسن الوفادة والضيافة لخيبات باتت لطول إقامتها من أهل البيت، بامتداد جلوسنا لزمن طويل نسلّيه بأحاديث نهز لها رؤوسنا وإن لم نسمع معظمها لصمم محمود أو همس مرغوب.
لم تأتني القهوة بل أنا من أتاها، أغويتها حتى أحكمت حصارها وجلست أشربها علّ النوم ييأس مني، لكن النوم يراوغ ويحتال ويتسلل حيناً، ويَعنُفُ ويَغصِب ويداهم أحياناً أخرى... أنا الآن مدنَّسة، لا أطهر مهما اغتسلت! وبرغم نومي فإني أحس مرارة القهوة في حلقي، وبرغم غزارة مياه اغتسالي فإن دنسي لا يزول، وبرغم انتباهي من نومي للحظات إلا أنه يبقى جاثماً فوقي يمنع حركتي.
لو اجتمعت كل الأرض -ولن تجتمع- لإقناعي بأن في جسدي قوة أقدر بها دفع النوم عني، وأن في رأسي عقل يعينني -إن أردت له ذلك- بالحيلة لأخلِّص نفسي من قبضته، وأن لحظات انتباهي على قِصَرِها تسرق من سطوته لمحة للطريق... ما اقتنعت ولا أدرت لحججها -كل الأرض- بالاً! فأنا الآن مدنسة، جفّ حيائي واستوطنتني الذِّلة وطبّعني النوم على الخيانة، فلن أطهر مهما اغتسلت.
إن الجوقة التي رنّمت لتأجيل النظر في تقريرك يا "ريتشارد"، إنما فعلت ذلك لتمنعني من سماع أنيني لئلا تنقطع على النوم متعته إن انتبهت لحدته -الأنين- هذه المرة، وإن قررتَ أن تدير لي ظهرك أنت أيضاً وتشيح بوجهِكَ عني، وتقلب شفتيكَ باشمئزاز في وجهي، أقول لو فعلتَ ذلك ما كنت لأغضب، فالطهر لا يجد بين دنسي موضعاً له.
قطفتُ اليوم آخر عنقود عنب على الدالية، عبّأتُ مربى التين في الجِرار، عصرتُ الرمان وخبزتُ خبزاً بالزيت والبصل... أغلقتُ بابي وجلست أنتظر خبراً.
اقرأ أيضاً:
في التفاصيل / ليلة خرساء