.. صاحبت هذا الرجل من 16 نوفمبر 1994 وحتى قرب رحيله الجسدي، بمناسبة ذكرى رحيله 30 /8/ 2006، رجعت إلى أوراقي فوجدت أنني سجلت بعض ما دار بيننا من 11 / 12/ 1994 - حتى: 17 / 8 /1995 ثمانية أشهر فقط لا غير،. لماذا توقفت؟!، أنا آسف، وفيما يلي بعض ما كتبت حرفياً (تقريباً):
2/1/1995
"....... ما زال نجيب محفوظ يعلمني –بلا فائدة– مناقب الديمقراطية، مهما كانت نقائصها وعيوبها، وما زال أغلب المحيطين به يوافقونه، لكنهم يضعون شروطهم التي تلغيها تماماً! وأنا لا أتعلم، وأحلم، وأتصور أن البشر بما وصلوا إليه من تقنيات ومعارف أقدر على ابتداع نظام آخر يحقق المشاركة الفعلية غير هذا التسطيح المغرض الذي يجمع قشور مواقف الناس من فوق سطح الوعي الظاهر، لمجرد أنهم ليس أمامهم بديل إلا الاستسلام لفرد متسلط.
رحت أحكي للأستاذ عمّا آلت إليه حال الناس مما يبدو كأنه المحافظة على القيم الدينية، دون التزام بالقيم الحقيقة، فرد قائلاً: "ألا يعني هذا أنهم قد كسبوا العقل المصري والسلوك المصري دون قانون مباشر يمنع ويغرّم، كنت ترى قديما الشرب في الشوارع، والصخب في أي مكان، والآن لا يجرؤ أحد أن يعملها، ليس معنى هذا مزيد من التقى والورع، ولكن معناه -سياسياً- أنهم كسبوا الجولة في هذه المرحلة".
أقر وأعترف أن ما وصلني ويصلني من الأستاذ يحرجني لسلامة منطقه وقوة حجته، فهمت منه أنه لا بد من احترام ما وصل إليه مجموع عامة الناس، وأن الحال التي آلت إليه مرحلتنا، والذي يمكن أن نرصده من خلال ما يمكن أن يسمى "المد الديني"، هو إعلان عن توجه أغلب الناس إلى ما اختاروا أن يتوجهوا إليه، وما دام قد حدث ما حدث، وأنه لا يوجد بديل واضح سوى بعض التكنوقراطيين والبيروقراطيين والعسكر، فلا بد من إعطاء الفرصة، أربع سنوات فأربع سنوات، وما يكون يكون فنحن لا نستأهل إلا ما هو نحن.
كان هذا هو ملخص رأي الأستاذ كما وصلني خلال الشهرين الأخيرين، لم أهمد، ورحت أعيد بتكرار سخيف: "فأنت ترى أن علينا أن نتحمل أربع سنوات حتى تتاح الفرصة لنغير ما لم يصلح، ليكن، لكن هذه الأربع سنوات قد تمتد لتصل إلى أربعين أو أربعمائة، فيهز رأسه بغير إصرار، ويقول: "كم سنة مرت الآن على الجزائر منذ أن رفضوا رأي الناس، وكم ضحية ذهبت من الجانبين، لقد كتبت في "وجهة نظر" آنذاك أنهم لو كانوا تركوا الجزائر لجبهة الإنقاذ، إذن لكنا احترمنا رأي الأغلبية، ثم لأظهرت السنوات الخمس التي تولوا فيها الحكم مدى صلاحيتهم، وربما كانوا قد فشلوا في الحصول على الأصوات التي سلمتهم الأمر"، وتعلو من أغلب الحضور أصوات المخاوف المعتادة، فيقول محمد، إن أول شيء سيعملونه هم أنهم سيغيرون الدستور ليحولوا دون أي احتمال لزوالهم، لأنهم سيعتبرون زوالهم ليس زوال الأشخاص وإنما هو رفض الإسلام، إن المصيبة أن القانون الذي سيأتي بهم لن يبقي قائماً ليزيلهم"، فيقول الأستاذ:
"ولو! إن التجربة كفيلة أن تعلمهم وتعلمنا أن أحداًً لا يستطيع أن يقف في وجه التطور أو الواقع إذا ما استمر الخطأ أو الفشل أو الفساد، لقد أعلن رئيس إمبراطورية نووية (يعني روسيا) انهيار كيان إمبراطوريته حين أدرك حجم الواقع المر الذي وصلوا إليه نتيجة تجاهلهم لغة المرحلة الزمنية التي يعيشونها، وإغفالهم نبض الناس"، ثم يضيف "لقد تحملنا خمسين سنة فلنجعلهم خمساً وخمسين، ستين!، ماذا سنخسر أكثر؟" ثم يستطرد: "إن حدس الشارع المصري حين كان يغني الناس: "الفاتحة للعسكري، قلع الطربوش وعمل ولي" كان يشير إلى عمق وعي الناس الساخر وهو يكشف كيف أن الحاكم الديني المتسلط، ليس إلا حاكماً عسكرياً دكتاتورياً يلبس عمامة، بعد محاولة تخفيه بخلعه الرمز العسكري (الطربوش)، هذا الحدس الشعبي هو الذي سيزيح العسكر، وهو هو الذي يستطيع أن يزيح مدعي الولاية تحت أي اسم سلطة دينية، الواحد تلو الآخر!!...". (انتهى المقتطف)
آسف يا شيخنا، ما كان ينبغي وقد أتيحت لي فرصة أكثر من ثمان سنوات أن أتوقف بعد ثمانية أشهر عن رصد ما وصلنا!، ولكن ما تبقى منك فيّ وفينا قد كتب بمداد الحقيقة داخل داخل وعينا، فأعاهدك، ونعاهدك في ذكرى رحيلك أن نواصل حمل الأمانة إلى الناس، فكم كنتَ، وما زلتَ تحبهم جداً جداً، وهم –نحن- نحبك.
نشرت في الدستور بتاريخ 2-9-2009
اقرأ أيضا:
تعتعة: فضلُ الكهولة، وهل يورّث الوعي النقدي؟! / تعتعة: الفاتحة للعسكري، قلع الطربوش وعمل ولي!! / هدية العيد: الإنسان حيوانٌ