بعد عودتي سألتني إحدى صديقاتي: وبعد عودتك من هذه الرحلة هل تشعرين بالازدراء لمصر والمصريين؟؟
قلت لها: مبدئيا لم ولن أشعر بازدراء لأناس ببساطة أنا واحدة منهم، غير أني وطوال سيري في تلك البلاد، كنت أفكر وأحدث نفسي أن كثيرا من الناس ينقسمون في ردود أفعالهم عندما يسافرون إلى تلك البلاد إلى مجموعات مختلفة غير أن أبرز ردود الأفعال وأشهرها (ولا أعني التعميم بالطبع، غير أني أتحدث عن الأشهر) هي موقف من اثنين: فإما أن نجد زائر تلك البلاد ينبهر بما نراه هناك مما أستطيع أن أسميه بوضوح وبغير تردد: مظاهر الحضارة، ثم يظل يصف في تحضرهم وتخلفنا، حتى ليشعر من يسمعه في بلادنا أنهم خلق آخر يتنفسون هواء غير الذي نتنفسه، ومخلوقون من شيء آخر غير خلقتنا، كما أنه يصفهم وكأنهم عالم من الملائكة، وكأنهم يعيشون في الجنة، فهم لا يخطئون، ولا يكذبون ولا يسرقون ولا..... وهكذا، وبالمقابل يتحدث عن مجتمعاتنا وكأنها الشر المحض، فلا يرى أي جانب مشرق ولا مزية بل ولا حتى أي مجال للمقارنة بينهم وبيننا، وقد قابلت في أمريكا العديد من العرب المسلمين الذين يتحدثون بهذه اللهجة وبلغة يملؤها الازدراء لبلادهم وأهلهم، بل ورأيت منهم من يزهو فرحا وسعادة أن أبناءه لا يستطيعون نطق أية كلمة عربية، بينما يتحدث الأمريكية كأبنائها (عموما هذا الأمر موجود حتى هنا في بلادنا).
وعلى الطرف الآخر قد نجد زائرا آخر يكون رد فعله عند سفره لتلك البلاد أن تأخذه الحمية فيظل ينكر أي ميزة عندهم، وأن كل ما عندهم هو شر محض، ثم يظل ينفعل ويتشنج ويؤكد أننا من علمهم الحضارة وأننا نملك ما عندهم و..... ولست أنكر ذلك لكني أريد أن أصل لنقطة أخرى وحقيقة، فإن طبيعتي عامة ترفض فكرة المغالاة سواء في المدح أو الذم، وحينما كنت أسير هناك، حاولت أن أفكر، ترى كيف يجب أن يكون رد فعلي ومن ثم رأيي في هذه التجربة، فعقدت اتفاقا مع نفسي أنني لن آخذ الأمور بعمومية وتسطيح بل سأحاول قدر الإمكان أن أفهم ما أراه وأحلله حتى إذا ما اضطررت لعقد مقارنة بيننا وبينهم كانت مقارنة عادلة موضوعية غير انطباعية أو منفعلة أو متأثرة بالانبهار. وحقيقة تنازعتني مشاعر شتى وأنا أجول في تلك البلاد؛
أولها: مشاعر الحزن، وحزني كان مبعثه شعوري بحجم الظلم والتحكم الذي تفعله فينا الحكومات الظالمة الدكتاتورية التي تبذل كل جهدها ليبقى وضع شعوبنا وبلادنا في أسوأ أحوالهم، نعم، شعرت أن هناك إصرارا على أن يبقى الحال على ما هو عليه وعلى حرماننا حتى من التنفس، ووافقتني في ذلك أختي دعاء التي تعيش هناك وتعمل في إحدى المدارس بكندا، فكانت تقول لي، بالله عليك لو أتحنا لأطفالنا نفس الفرصة المتاحة للأطفال هنا ألا تتوقعين أن يفعلوا المعجزات. بالتأكيد سيعلق أحدهم فيقول: هكذا أنتم دائما ترمون عيوبكم على الحكومات، نحن شعوب متخلفة وليس كل شيء تفعله الحكومات؛
أعلم أن الكثير والكثير جدا علينا كأفراد ومؤسسات أن نفعله، غير أني في كل لحظة هناك كنت أشعر بقوة النظام (system) الذي أنشأ وحافظ على هذا المناخ المنتج المتحضر المحفز للعمل والإبداع ،وفهمت تماما ما تعلمته من أن القوانين تغير السلوكيات، فمثلا حينما يكون هناك قانون صارم يعاقب من يسبب ضوضاء في الشارع سواء بآلة تنبيه السيارة مثلا أو حتى برفع الصوت عند الحديث، فإن الناس سيمتنعون عن فعل تلك التصرفات خوفا من العقاب وبمرور الوقت يتعودون على ذلك فيصبح سلوكا عاديا، وينشأ الطفل يرى الكل يفعل ذلك فيصبح سلوكا معتادا عنده، وهكذا... لذا فان ما نراه هناك من سلوكيات جيدة عززها نظام صارم يدفع الناس للالتزام بها.
الأمر الثاني: حينما كنت أسير هناك وأرى تلك المشاهد الحضارية قلت لنفسي، أنا لن تأخذني الحماسة والحمية ولن أتحدث عن بلادي وقناعاتي بلهجة حماسية، لكن فقط، سأنظر كلما رأيت أمرا ملفتا للانتباه، وأسأل نفسي: هل هذا السلوك هو من الأمور التي أمر بها الإسلام بوضوح أم لا، (وليس مجرد كونها أمور يبيحها الإسلام)، بل، هل هي أمور ورد فيها أمر شديد الوضوح والصراحة في ديننا أم لا، وإليكم النتيجة:
1- من أوضح المظاهر هناك مثلا هو مظهر يلفت الانتباه، وتشعر بجماله، وهو الهدوء وعدم رفع الصوت حتى أني أقول لأهلي أنني قضيت شهرا هناك لم أسمع صوت بوق سيارة، وكذلك الأمر عند حديث الناس مع بعضهم ومع أطفالهم وهنا وجدت هذا تطبيقا عمليا لآية شديدة الوضوح: "وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ" (لقمان:19) وحقيقة مدى أهمية هذا الأمر يظهر بوضوح حينما تراه ممارسا بشكل عملي فلا تجد نفسك إلا أن تتمتم، "صدق الله العظيم".
2- من الأمور التي تلفت انتباهك أيضا عندما تسير هناك هو جو الابتسامة وعبارات التحية التي تعارف الناس على فعلها بمجرد أن تلتقي عيونهم، وربما كان هذا الأمر شديد الوضوح في نيويورك بالذات لأنها مدينة تستقبل كل جنسيات العالم، ورغم أنك تعرف تماما أن هذه الابتسامات والتحية هي مجرد عرف أو ما نسميها "ابتسامة دبلوماسية" لا تحمل عاطفة حقيقية، فمثلا كنت في طريقي من المطار إلى محطة القطار وكنت أجر حقائب ثقيلة تجعلني أتوقف مرات كثيرة للتحكم فيها، وتجعل حركتي ثقيلة ومضطربة والمطر ينهمر ولم أكن أستطيع حمل شمسية فيدي الاثنتين مشغولتان بجر الحقائب، فكان الرجال مفتولي العضلات يمرون بي، فيبتسمون تلك الابتسامة اللطيفة ويحيونني "Hello" ثم يقفون بجانبي أو يسيرون غير عابئين بمحاولة مساعدتي ولو قليلا في تحريك حقائبي، ولما اضطر أحدهم لمساعدتي في ذلك بسبب أنه كان يسير خلفي وكنت أؤخر حركته بسبب توقفي عدة مرات، فقال لي: "ربما يمكنني مساعدتك، واختار أصغر حقيبة وقام بجرها مضطرا!!، ومع ذلك فانك تشعر بجو من الراحة مع هذه الابتسامات والتحيات التي تقابلك أينما ذهبت.
ووجدت حديثي رسول الله صلى الله عليه وسلم بأوامرهما شديدة الوضوح يرنان في مسامعي:
الأول: أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإفشاء السلام وقال (فيما معناه)، فإن فصلك شجر أو حجر فالتقيتما فقل السلام عليكم.
وقوله: "تبسمك في وجه أخيك صدقة "
"ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم"
اقرأ أيضاً:
خواطر الرحلة / ليلة في العناية المركزة / توفيق إدريس / أحلام..... مشروعة