هل هناك شك أن الأكل غريزة بقائية تحافظ على الحياة عند الحيوان والإنسان على حد سواء؟
امتُحن الإنسان بمحنة الوعي، (وبالعقل الحديث وبعض الإرادة)، فراح يتدخل في عمل وإعادة تشكيل غرائزه وسلوكه سلبا وإيجابا، حتى جاوز الأكل وظيفته من سد حاجة الجوع، إلى وظائف أخرى انتبه إليها معظم من تناولوا النظر في الطبيعة البشرية، كل بطريقته. خذ مثلا سيجموند فرويد وتركيزه على المرحلة الفمّـية، وربطها بعلاقة الطفل بأمه، ثم تفسيراته لتجليات وسلاسة أو صعوبة المرور بهذه المرحلة "الفمّية" (من الفم) وما يرتبط بذلك من أمان، أو توجس أو جنس أو حب، أو جنون...إلخ، خذ مثلا إمراضية (سيكوباثولوجيا) أخرى وهى: تحريك الرعب الكامن وراء سلوك الجمْع للجمْع (التراكم الاغتراب، التملك الاستهلاكي الكمي المتزايد، الرأسمالية الفائقة العمياء)، وما وراء كل ذلك من رعب جنوني ضلالي كامن هو: "الخوف من الموت جوعا"..إلخ.
الإنسان، بوصفه كائنا اجتماعيا، اخترع للأكل وظيفة أخرى، تكمل اكتسابه للوعي، وهو أن تكون عملية الأكل فرصة للتذكرة أن الإنسان لا يكون إنسانا إلا مع إنسان آخر، يتجلى ذلك مباشرة في الجنس، لو مارسه الإنسان بما يميز وظيفته الأرقى: للتواصل، وليس فقط،: للتكاثر. "الأكل معا"، هو أيضا للتواصل وليس لمجرد سد الجوع، طبعا علينا ألا ننسى أن هناك من لا يجد ما يأكله أصلا، ومع ذلك فأغلب هؤلاء الذين لا يجدون ما يأكلونه يمارسون "الأكل معا" أفضل كثيرا: تحت ظل شجرة في عز الظهر، ينادى عم عبد الرحمن الواد عبد ربه وهو يتفصد عرقا، أن: "تعالى يادْ، وهات البصلة اللي معاك أنا عندي غموس جبنه نعمل غديوة"، وهات يا أكل معا، وهات يا كلام ، وهات يا إنسان.
تعلمت من السنة اليتيمة التي قضيتها في فرنسا متنقلا بين ربوعها كلها لحوالي خمسين "نهاية أسبوع" معنى أوسع "للأكل" و"الأكل معا". في فرنسا، للأكل هناك مواعيد منضبطة، بالثانية تقريبا، الغداء الساعة 12 ظهرا، حتى لو كنا أفطرنا الساعة عشرة صباحا، ما وصلني من ذلك هو أن "فعل الأكل" هو قيمة محترمة في ذاتها.
رويدا رويدا تعلمت، خاصة من رحلات نهاية الأسبوع، أن للأكل وظيفة أخرى: فهو "احتفالية اجتماعية"، وأنه كثيرا ما يكون معدا خصيصا ليتم من خلاله وحوله إنجاز ما، حوار ما، كما نسمع أحيانا عن "غذاء عمل" أو "عشاء عمل"، هذا على مستوى رجال الأعمال والساسة، ثم تمتد المسألة لسائر الناس، فيما يسمى "عشاء للحوار Diner Du Debat"، كانت عملية "الأكل معا" –خاصة في رحلات نهاية الأسبوع- تستغرق وقتا طويلا يصل إلى أكثر من ساعة، أما إن كان "الغداء للحوار" فقد تصل المدة إلى أكثر من ساعتين، وهم يقدمون الأطباق إذ ذاك ببطء شديد مقصود لتحقيق الغرض.
في إحدى الرحلات، في جنوب فرنسا، في قرية سكانها بضعة آلاف، دعانا العمدة إلى العشاء لنناقش مشكلة هامة جدا، كنا أربعين "ممنوحا" من اثنين وعشرين دولة أغلبنا من العالم الثالث، بالإضافة إلى من يهمه الأمر من أهل القرية!!، أي أمر هذا الذي يدعونا العمدة مع أهل القرية لنناقشه؟؟ لا تتعجب من فضلك، كان الأمر هو: محو الأمية في هضبة التبت، أي والله، نحن في فرنسا، في قرية هامشية، وكان العمدة متحمسا وكأن أولاده من ظهره هم الذين لا يفكون الخط، شعرت بالخجل مما فعلته بأولادي حين حرمتهم من أن يتعرفوا علىّ مع أمهم، وعلى بعضهم البعض، بأن نأكل معا يوميا وجبة محددة في ساعة محددة، وهاأنذا أعتذر لهم بعد فوات الأوان.
في رمضان، تعود "للأكل معا" وظيفته الإنسانية "كاحتفالية اجتماعية" بشكل أو بآخر، حين أفطر في الحسين، وأنظر حولي لأرى كيف يتحوطني حوالي ربع الجالسين على الموائد في الساحة من الأجانب، وهم ينتظرون مثلنا الأذان قبل أن يضعوا شيئا في فمهم، أفرح جدا بالحوار الصامت جدا جدا.
أما حين أدعى للسحور في فندق سبعة نجوم لتدشين عقار جديد ثمن حقنته سبعمائة وخمسين جنيها، بعد أن أشاعوا –زيفا علميا- أن للعقار القديم (ثمن حقنته 22 جنيها، وهو أكثر فاعلية) آثارا جانبية كذا وكيت، أحزن حزنا شديدا، حتى أنني لم أعد أذهب أصلا.
الوجبات السريعة، (والساندوتشات عموما) قضت على وظيفة الأكل كاحتفالية اجتماعية
أما موائد الرحمن، مهما تحوطتها النوايا الطيبة، والكرم المعلن، فهي امتحان خطير للفقر، والكرامة، والرشوة، والبدائية، والنفاق، والتدين.
وكل عام وأنتم بخير!!
نشرت في الدستور بتاريخ 16-9-2009
اقرأ أيضا:
تعتعة: فضلُ الكهولة، وهل يورّث الوعي النقدي؟! / تعتعة: الفاتحة للعسكري، قلع الطربوش وعمل ولي!! / هدية العيد: الإنسان حيوانٌ