مصر كلها الآن ترقص.... السيارات التي تحمل أعلام مصر للزينة كانت تجوب شوارع القاهرة بالأمس ومن الواضح أن السوق المصري جاهز لهذه الأحداث فقد رأيت صبيان يحملون أعلام مصر للزينة يبيعونها لسيارات المشجعين.... مصر والجزائر ستلعبان غدا في السابعة والنصف.... لم أكن أحسب من صالح الكرة أن يكسب الفريق المصري فيكون في فوزه مُسكن طويل ومخدر أصيل ينسينا ما أخفقنا وما نزال نخفق فيه، لن تستفيد الكرة شيئا وستبقى مستديرة كما كانت، لكن مصر المحتضرة ستبقى ترقص طول الليل من الفرحة والغفلة والله أعلم إن كانت صحتها ما تزال تتحمل! فرحة أو غفلة!
في الظهر كانت أمامي واحدة من مريضاتي الأذكياء، واسعات المدارك، مفرطات التمسك بالرأي... سألتها ماذا بك اليوم قالت: لي فترة يا دكتور في حالة من الضيق وفقدان الأمل والعجز عن الاستمتاع.... قلت لها من المؤسف ونحن نعيش في مصر أواخر سنة 2009 أنني أرى أن ما يجب على كطبيب نفساني أن أسأله لك يعني سؤالك هل من أسباب لذلك؟ سؤالا غبيا لأننا في مصر أواخر 2009 غالبا ما نجد الضيق وفقدان الأمل والعجز عن الاستمتاع سمة يكاد يتعايش معها المصريون... وسبحان الله كعادتهم طيبون وقليلا ما يشتكون.
في عهدتي الآن ثمانية بل تسعة حالات لبنات وسيدات كن أوائل دفعاتهن فشلن في العثور على وظائف وكان مصيرهن الانتظار برغم وجود استثناء واضح لهن من قبل الجامعات بالتعيين في وظائف المعيدين.... هذه عرض عليها العمل في "كونترول" الامتحانات والنتائج في كليتها التي تخرجت منها مقابل مرتب مغري مقابل تضحيتها بوظيفة معيد بأحد أقسام كليتها فكان أن رفضت وهي الآن بعد سنوات من تخرجها أولى الدفعة عاطلة بلا عمل... وهذه أخرى اعتذرت الكلية لها لأنه لا توجد درجات... ولكن يمكنها أن تسجل للحصول على الماجستير والدكتوراه على نفقتها الخاصة وسوف يتساهلون معها... وغير هذين المثلين كثير لا مجال للخوض فيه، ولا غرابة أن ليس في المثلين أولاد فمعظم أوائل الدفعات الآن إناث على مستوى العالم.... لكن الحالات التي أتحدث عنها كانت لسبع من الإناث واثنين من الذكور.
المهم أنا طبيب نفساني واحد عندي كل هؤلاء المحبطات والمكتئبات والموسوسات من ضحايا غياب العدالة فقط في مجال التعليم والتوظيف فما بالنا بضحايا غياب العدالة في الامتحانات..... ولا أنسى أنني طالبت وما زلت أطالب بإشراف دولي على الامتحانات في مصر ذلك أن عواقب غياب العدالة أفظع بكثير من كل ما يمكن أن نتخيل.
الضحايا بالأكوام.... وحتى سائق سيارتي أعلن بالأمس أنه ".... تغير وأنه لم يعد يهتم بالكرة ولا باللعب والكلام الفارغ يا دكتور" وبالرغم من ذلك كانت الأخبار كلها تشير إلى احتدام المشاعر الجماهيرية في مصر... وتقرير الجزيرة أو آخر ما سمعت من الجزيرة مساء الخميس 12 نوفمبر 2009 هو أن الفريق الجزائري تعرض للرشق بالحجارة وهناك من يشكك في وقوع الحادثة ويرى أن أعضاء الفريق الجزائري يبالغون والله أعلم بالحقيقة...
في المساء يوم السبت 14 نوفمبر 2009.... أكثر من مريض عجزوا عن الوصول لي في مقر عيادتي في روكسي "مصر الجديدة" بسبب أن اليوم لقاء مصر والجزائر... والشوارع من وإلى روكسي مغلقة بالبشر من المشجعين وشاشات العرض في الطريق متعددة... سألت سكرتيري يا "محمد" ماذا في الشارع يا "محمد"؟ فقال: ربنا يستر يا دكتور الناس على أعصابها... إن شاء الله نكسب إن شاء الله"
فجأة علا الضجيج وارتفعت أصوات التصفير والتصفيق والصياح وعرفت أن الفريق المصري أحرز هدفا... قلت تكفيني ضخامة هذا الصوت لأقول أن مصر كلها في الشارع وهذا خطر من الناحية الأمنية... ومن الواضح أن الناس فعلا تبحث عن أي انتصار أي انتصار...... وتذكرت ما حكاه لي أبو طفلة موسوسة من أنه وأمها ندما على كونهما استمرا لسنوات يتحدثان عن اختلال القيم والمبادئ في المجتمع والأمة ويتأسفان على قتامة الصورة دون أن يحاولا إعطاء الأمل لابنتهم... سألته وكيف تُريها الأمل الآن؟ ماذا تقول لها هل لديك أنت أمل في مصر.... قال لا يا دكتور لا نكذب إنما ولكن نحاول التركيز على الجوانب المشرقة وإن قلت أو ندرت.... أتساءل هل الفوز في مباراة كرة قدم علامة على انتصار بلد مهزومة حتى النواة؟؟
أخيرا أرغمني تعجل أحد الموسوسين لإنهاء الجلسة متعللا مرة بأنه عرف أنني لم أتناول غذائي بعد ومرة بأنه يخشى علي ألا أتمكن من الخروج من منطقة روكسي بسيارتي بعد انتهاء المباراة لأن من المتوقع أن تتعطل مصر كلها بعد التاسعة والنصف.... حيرني هذا الموسوس الذي استنتجت أنه كان يتابع المباراة من خلال رنات الهاتف، وقررت الانتظار إلى نهايتها..... لم يحسمها الفريق المصري وما زال مرة أخرى سيلعب في السودان فهل الاحتقان المؤجج بين الشعبين سيستمر حتى المباراة الحاسمة؟ أتمنى أن يبقى لدى الفريقين أمل في تحقيق الفوز.... وأتمنى أن يتعلم الناس في مصر والجزائر أن المعضلات الكثيرة التي تواجهنا جميعا أقوى وأمضى وأهم من الذي سيفوز في كرة القدم!
ويتبع>>>>> : مصر كلها الآن محبطة كيف الجزائر؟
واقرأ أيضًا:
ماذا جرى يا ترى؟! اليوم بجنيه! مشاركة1 / الطب النفسي الكيميائي