في العيد كنت –وما زلت– أفرح إذا لبست جديداً، أي جديد، حتى لو كان الرداء قديماً لكنني لم ألبسه منذ مدة، فإنني أعتبره جديداً، وحين كنا نفصّل جلباباً جديداً للعيد كنا لا نلبسه، وأحياناً لا نلمسه إلا صباح يوم العيد، كنت أشعر بجدة جلباب العيد من حفيفه على جسدي لأنه لم يسبق له أن رأى الماء، ظل هذا الحفيف كامناً في وعيي، وحين افتقدته ذات عيد حزين، قفز مني في قصيدة يقول: "..ما حاكت لي جلباباً ذا صوتٍٍٍ هامسْْْ، لم يمسسه الماءُ الهاتكُ للأعراضْ، لم يتهدّل خيطـُـــه، لم تتكسَّر أنفاسُــه". كنا نفرح بالجديد جداً برغم وعيد خطيب صلاة العيد أنه "ليس العيد لمن لبس الجديد، ولكن العيد لمن غفرت ذنوبه يوم الوعيد"، كنا على ثقة أن الله سوف يرضى عنا ونحن فرحون بالعيد، وبالجديد معاً، وأنه سيغفر لنا أيضاً ودائماً حتى عدم سماع خطبة العيد التي من رحمة ربنا أنها سنّت بعد الصلاة، ربما ليجري الأطفال أمثالنا قبل أن يصفهم خطيب آخر سمعته بنفسي ونحن نخرج مهرولين بعد الصلاة مباشرة يصفنا بأننا "حُمُـرٌ مستنفرة، فرّت من قسورة" (ولم ينتبه أنه بذلك جعل نفسه قسورة!).
حين قرأت فكرة أن الموبايل كاد يصبح عضواً جديداً في تركيب الإنسان، بناء على الاستطلاع الذي أجرته شركة بحوث الأسواق "سينوفيت" (الشروق الأحد 6/9)، قلت فلتكن هدية التعتعة لقرائها هي هذه الفكرة الطريفة.
الحكاية أن الإنسان عبر تاريخه تتخلق له أعضاء جديدة، كما تضمر أخرى، وقد قرأت هذا الخبر باعتبار أن الموبايل (وما إليه) سيكون امتداداً للوعي البشري الفردي إلى الوعي الجمعي عبر العالم، وأترك لك أنت أن تتخيل كيف أن هذا العفريت الصغير قد أصبح جزءاً –يكاد يكون عضواً بيولوجياً– من وعينا التواصلي معاً.
قيل وكيف يكون ذلك؟.
الأعضاء تتخلق، وأيضاً تتلاشى حسب الاستعمال: تنازل الإنسان –بفضل الله– عن ذيله فـلم يبق منه في أسفل عموده الفقري إلا فقرات عظمية ثابتة أثرية بلا وظيفة، اسمها العُصعص، حدث ذلك في مرحلة "الإنسان واقفاً" على ساقين (هومو إريكتس، Homo Erectus)، حين استغنى عن أن يتشعلق على الشجر بذيله، مثل أولاد عمومته القردة. على النقيض من ذلك تطورت حركة إصبع الإبهام حتى اكتسب حركته الطليقة من مرونة وتنوع زوايا الاستعمال، فأصبحت لليد البشرية مهارات غير مسبوقة عند أجداده، أمكنته من أن يمسك القلم، ويلضم الإبرة، ويعزف البيانو.
موازاة لذلك، ظلت التكنولوجيا (منذ اختراع الفأس في العصر الحجري الحديث فظهور الزراعة) عاملاً فاعلاً يقوم بالواجب في تشكيل طبيعة الحياة البشرية وسلوك الإنسان، فتركيـبه حتى تشكيل حضارته!. أتصور أن التكنولوجيا الحديثة، بما أتاحت من معلومات وتواصل، قادرة فعلاً على تخليق وعي بشري جديد، ومن فرط تفاؤلي تصورت أننا لو اجتهدنا في الطريق الصحيح أكثر فأكثر، لأمكن لهذا الوعي العالمي/الكوني الجديد أن يواجه وينتصر على ذلك الديناصور المتعملق المسمى: " النظام العالمي (الانقراضي) الجديد".
مع انتشار هذه الأداة الصغيرة الساحرة، المزعجة، الرائعة، الخبيثة، المسماة "الموبايل" ممثـــِّلة لكل ما هو أعقد وأروع منها، يتقارب الوعي البشري كله إلى بعضه بعضاً، فتتجلى فرصة رائعة، بقدر ما يمكن أن تكون كارثة مروعة، لنـقلة بشرية عملاقة، أو نكسة تدهورية انقراضية، حسب شطارتنا، ومسؤوليتنا.
أنظر حولك، حتى في بلد فقير مثلنا، من أول ابن البواب حتى بنت الوزير، أطفالاً وكباراً، وستعرف مدى انتشار هذه التكنولوجيا الصغيرة القادرة المغيرة بشكل لم يعد قاصراً على القادرين دون غيرهم، ولا هو من اهتمامات الساسة أو التربويين أو الإعلاميين أو الاقتصاديين دون عامة الناس، وهكذا تتضاعف المسؤولية وتثقل الأمانة: إما إلى وعي عالمي مسؤول وإيجابي خلاق، وإما إلى انقراض استهلاكي اغترابي دماري بشع، وهكذا تشتعل المواجهة.
التحدي الملقى على كل الناس هو أكبر من رخاوة التأجيل وميوعة الحلول الوسط، هو فرض عين إذا قام به بعض لم يسقط عن الكل، نعم: كل إنجازات البشر، وكل نعم الله الطبيعية والمصنوعة، هي أمانة علينا أن نحملها بحقها، فرداً فرداً، ثم جماعات معاً نصنع الحياة حتى نلقى الله، وإلا كنا هذا الإنسان الظالم نفسه، الجاهل قدراته، "ظلوماً جهولاً".
أخشى ما أخشاه أن يتصدى أحد المؤلفة عقولهم، وينتهز الفرصة ليفسر لنا إعجازاً جديداً يشوه الدين والعلم معاً، فقد يفسر الأمانة في قوله تعالى و"حملها الإنسان" بأنها الموبايل: أليس اسمه "المحمول"!!، إيّاكم إيّاكم! أستغفر الله العليّ العظيم.
وكل عام وأنتم بأعضاء أقدر، وأمانة أثقل، ومسؤولية أكبر.
نشرت في الدستور بتاريخ 23-9-2009
اقرأ أيضا:
تعتعة: الفاتحة للعسكري، قلع الطربوش وعمل ولي!! / الأكل معاً: من الحوار إلى التسويق إلى المذلة!!! / ... فإن أعطوا منها رضوا، وإن لم.....