... فإن أعطوا منها رضوا، وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون!
أشعر أن مدخل هذه التعتعة بتطبيق مغزى هذه الآية الكريمة هو بمثابة تحصيل حاصل، ذلك أن منطق الآية التي نستشهد بها هو بسيط وبديهي ومفيد بشكل لا يحتاج إلى التذكرة، خاصة في موضوع معاد مثل موضوع اليونسكو. بصراحة، إن ما دعاني إلى الاستشهاد بها هو استمرار تفسيرات فشل وزيرنا الثقافي الفاضل في اليونسكو. المفروض يا سادة يا كرام أن تكف الأقلام عن مثل ذلك، أقلام المسؤولين والمتنورين بالذات، وأن يخفف سيادته من غضبه المستثار لمجرد أنه خسر شوطاً في لعبة دخلها وهو يعرف قواعدها، ويزعم ناسنا، وحكامنا في مقدمتهم، ومثقفونا أيضاً أنهم ينتمون إليها، بل ويقدسونها، بلا بديل.
من حقنا أن نأسف، أن نحزن، أن نتعلم، لكن ليس من حق أحد لمجرد الخسارة أن يشجب أهم قواعد اللعبة، ليس من حق أحد رضي أن يلعب مباراة في الشطرنج، أن يتهم خصمه بترقية بيدق إلى فرز (عسكري إلى وزير) ويدعي أن هذه الترقية خطأ وغير معقولة لمجرد أنه لم ينتبه إلى أن العسكرى\ي تقدم في رقعة الشطرنج حتى آخرها واحدة واحدة! ليس من حق المهزوم أن يتمادى، فينكر أو يتنكر لهذه الترقية بدعوى أن عساكره كانت أكثر سلامة وعدداً في أول الدور، والألعن أن يمضي بعد انتهاء الدور "بكش مات" يتهم خصمه بالسرقة أو النقل الخطأ أو تجاوز القواعد.
إن ما حدث بعد الخسارة، وما نشر في كل وسائل الإعلام عندنا، وطبعاً نقله إعلام العالم، يبرر للناجحة، ومن وقفوا وراءها أنها الأولى بالمنصب، لماذا نشوه أنفسنا بأنفسنا هكذا؟ هل لو كان سيادة وزيرنا قد نجح، هل كانت السيدة إيرينا بوكوفا ستطلق مثل هذه التصريحات وهي التي حصلت على 29 صوتاً في اليوم السابق لآخر تصفية؟ صحيح أنها حصلت على ثمانية أصوات في اليوم الأول، لكن من قال أن "كش مات" في الشطرنج هي نتيجة النقلات الأولى؟ الحمد لله أن وزيرنا هنأها بروح رياضية، وأن سيادتها ذكرته بكلمات طيبة، ولكن ما فعله بعد عودته أفسد هذا وذاك، فجاءت تصريحاته مع الحملة التبريرية الدفاعية التوعدية الحالية، تشككنا في هذه التهنئة، وأن "اللي في القلب في القلب"، ليس هذا فحسب، بل إن هذه الحملة تفضحنا إذ تعلن أننا لا نعرف قواعد لعبة الديمقراطية أصلاً، أنا لا أحب هذه الديمقراطية الأمريكية كما لا أحب الشطرنج ولا أنصح مرضاي بلعبه، لكن ما دمنا قد رضينا أن "نلعب ديقراطية"، فلا بد أن نحترم قواعد اللعبة حتى "كش خسِر".
نرجع مرجوعنا للآية الكريمة: ونورد لها أربعة مشاهد استشهد أصحابها بها بشكل جميل ومفيد
الأول: أحوال الهواة (وبعض المحترفين) من مضاربي البورصة، حين يعتبرون البورصة أفضل استثمار طالما كسبت أسهمهم، ثم إنهم يملأون الدنيا صراخاً وعويلاً إذا ما خسروا، وهات يا اتهامات واحتجاجات، مع أنهم عادة لا يمكن أن يثبتوا أي خروج على قواعد البورصة.
المثال الثاني: ما حدث في انتخابات الجزائر المشهورة، حين كانت الديمقراطية أحسن شيء، فلما فازت جبهة الإنقاذ في الجولة الأولى، ألغيت الجولة الثانية. وهذا هو ما حدث، أو كاد في الانتخابات الفلسطينية فما دام أهل الود والتنازلات ينجحون فالديمقراطية أحسن نظام، أما إذا نجحت حماس، فملعون أبو الديمقراطية ومن شارَ بها.
المثال الثالث: جوائز الدولة، إذا أخذتها أنا فهي أعظم حق وصل لأصحابه، ولجانها أشرف موضوعية، وإذا لم أنلها، فهي شللية، و"كوسة"، ورشوة، وفي أحسن تقدير: لا قيمة لها (زي قلتها)
.
وأخيراً، المثال الرابع: هذه الهيجة الإعلامية التي قام بها وزيرنا الفاضل، هجوماً، وتهديداً، ووعيداً، واتهامات بالرشوة والتربيطات، مع أن الطبيخ الانتخابي (هذا هو اسمه الرسمي ديمقراطياً: المطبخ)، والاتفاقات تحت المنضدة، والتنقلات المفاجئة، كلها هي من ألف باء قواعد اللعبة التي يعرفها الوزير أكثر من واحد مثل حالاتي ليس ديمقراطياً بالمرة، خاصة وقد أمضى سيادته ردحاً من الزمن في بلاد الفرنجة، فهو يعرف تماماً أن هذه الألاعيب والاتفاقات والمناورات التي يعزو إليها خسارته، هي بالضبط، قواعد الديمقراطية عالمياً حالياً.
أيها السادة لا مانع أن ترى عيوب الديمقراطية، ومن بينها كل ما سبق، لكن ما دمت قد رضيت أن تتعامل بها، فلتحترم قواعدها النظيفة والقذرة، الظاهرة والخفية.
وحتى يتم تحديث هذه الديمقراطية بنظام أنظف وأقوى، دون نكسة ديكتاتورية، بفضل الإبداع والتكنولوجيا، دعونا نحترم ما جرى، حتى يحترموننا، ولنكف عن تشويه أنفسنا بكل هذا الجهل والضجيج.
نشرت في الدستور بتاريخ 7-10-2009
اقرأ أيضا:
الأكل معاً: من الحوار إلى التسويق إلى المذلة!!! / هدية العيد: الإنسان حيوانٌ / متى نتعلم كيف نكسب لنثابر، وكيف نخسر لنبدأ؟