الحياة الحقيقية هي مكسب وخسارة، خدعة النظام العالمي الجديد أنه يتصور أن أمريكا (أمريكا الحقيقة والمجاز)، لا بد أن تكسب على طول الخط، خيبة فوكوياما الباكرة، أنه تصور أن التاريخ انتهى بجولة أخيرة نهائية لصالح الرأسمالية ليس بعدها خسارة حتى أتت الأزمة الاقتصادية الأخيرة توقظ العالم، المكسب المضمون لأحد الطرفين بشكل دائم وهم مستحيل، وبالتالي فالخسارة الدائمة لكائن لم ينقرض غير مطروحة.
فلماذا –إذن- نجزع كل هذا الجزع لأي خسارة أو هزيمة، ولماذا نتجمد عند موقف المكسب وكأنه لا خسارة بعد اليوم أبداً وتحت أي ظرف؟.
ناسنا، عامة الناس، وليس فقط الإعلام أو السلطة، يشاركون في هذا التوجه غير الناضج.
كان والدي ينبهني ألا أقيـّم أدائي بالنتيجة فقط، وهو يؤكد على أولوية إتقان العمل، وبذل الجهد، وألا أهتز كثيراً لرأي الناس في نتائجي، سواء بفرحة منافقة لا تخلو من حسد، أو تأنيب مذل لا يخلو من معايرة، ثم يستشهد ببيت الشعر القائل:
والناس من يلقَ خيراً قائلون له ما يشتهي، ولأم المخطئ الهبلُ،
ثم يضيف والدي: أن "الهبل" هو "الثـَّكل" (وزناً ومعنى)، كما كان يدندن بيتاً آخر يقول:
تحالف الناسُ والزمانُ فحيث كان الزمان كانوا
تذكرت ذلك وغيره وأنا أتابع موقفنا (الإعلام، والناس، والسلطات) من أداء فريق شبابنا لكرة القدم مؤخراً، لا يمكن لفاحص أمين أن يصدق أن نفس الفريق الذي مدحوه كل هذا المديح بعد المباراة الأولى، (مثل: انتصار مستحق لأبناء الفراعنة لسحقهم منتخب ترينداد وتوباجو 4-1، لعنة الفراعنة تصيب إيطاليا مع منتخب الشباب الذي هزمه 4-2!) هو هو الذي لعنوه كل هذا اللعن بعد المبارة التي هزم فيها (مثل: "شوية عيال" والخيبة القوية!، إنهاء عقد المدرب وحل الجهاز الإداري)، كيف أنه في خلال أيام ينقلب الفراعنة الصغار إلى شوية عيال هكذا خبط لصق، أليس هو هو نفس الفريق؟ أليسوا هم هم نفس الشباب؟ أليس هو هو نفس طاقم التدريب والإدارة؟ لماذا يكون المكسب كشف عورة الخصم (إيطاليا) وإسقاطه من على عرشه، وتكون الخسارة "مذلة" و"مهانة" لنا هكذا.
ليس بعيداً عن ذلك ما كان من الإعلام أيضاً (وأغلب الناس تتابعه انفعالاً ورأياً) بالنسبة لأداء منتخب مصر الأول في كرة القدم في كأس القارات يونيو 2009 (مصر تبهر العالم وتخسر بشرف أمام البرازيل، الفراعنة كشفوا عورة إيطاليا، مصر تتغلب على إيطاليا وتسقطها من على عرش العالم بكأس القارات)، ثم فجأة، وبعد يوم أو أيام: يتكلم الإعلام عن العار والمهانة (مصر تودع كأس القارات بهزيمة مذلة من أمريكا بثلاثة أهداف نظيفة، خروج مهين لمنتخب مصر بعد هزيمته أمام أمريكا)، وقد وصل الأمر لتفسير الخسارة من أمريكا، إلى اتهام أعضاء الفريق بالسكر والعربدة ليلة المباراة... إلخ.
بدلاً من أن نتعلم من هزيمة مرشحنا في اليونسكو مزيداً من قواعد لعبة الديمقراطية، قلبناها إلى التبرير بصراع حضارات، ومؤامرات المخابرات.
تنازلاتنا سنة 56 تجعل الحصيلة النهائية للحملة هي هزيمة لنا إذ إسرائيل ثمن النصر (كاش: المرور من تيران= الولادة الثانية لإسرائيل)، وهكذا تتخفى تفاصيل الهزيمة تحت أغاني النصر والاحتفالات حتى نفاجأ بالحقيقة سنة 1967، فتلحقنا الهزيمة التي لا نستطيع أن نخفيها، فنسميها بالاسم المستعار: "النكسة"، بدلاً من أن نعلنها هزيمة صريحة، إلا في معاهدة السلام، التي كان ينبغي أن نفهم أنها إعلان الهزيمة بشجاعة جاءت متأخرة، لضرورة بدء جولة جديدة، وليس لإعلان آخر الحروب.
النصر أيضاً نلعب فيه بانفعالاتنا وعدم نضجنا فيبهت منا أو يتشوه أو ينتفخ حتى ينفجر فينا، ثم نحن إما نعزوه إلى رئيس أو فرد، وننسى صانعيه وشهداءه من جموع الناس الأبطال المجهولين، نصر أكتوبر هو تتويج حرب الاستنزاف، ومع ذلك لا أحد يذكر انتصارات حرب الاستنزاف بحقها، حتى نصر أكتوبر ننتقص من قيمته حين نعلن –ضمناً– أنه آخر نصر، ما دامت حربه هي آخر الحروب!، وكأنه حدث بالصدفة التي لا تتكرر، بأمارة أننا لن نحارب بعده.
في نفس وقت هزيمة منتخب شباب كرة القدم، يوم ذكرى يوم نصر أكتوبر العظيم بيوم واحد (5 أكتوبر 2009) عاد المنتخب الوطني الأول للاسكواش متوجاً ببطولة كأس العالم للكبار، لم ينتبه عامة الناس لهذا النصر، ولم يقم الإعلام بدوره في الاحتفاء بهذا الحدث، لماذا؟ مع أن لنا في مجال الاسكواش على المستوى العالمي تاريخ مليء بما يستحق الفخر ليس فقط للنصر، وإنما لروعة المثابرة، واستعادة النصر بعد أية هزيمة أو تراجع!.
نشرت في الدستور بتاريخ 14-10-2009
اقرأ أيضا:
هدية العيد: الإنسان حيوانٌ / ... فإن أعطوا منها رضوا، وإن لم..... / تحالف قوى الانقراض... ولكننا نحن البشر سننتصر!