أردت أن أكتب هذا الأسبوع عن سيدة مصرية اسمها نورا هاشم محمد، لكن النصر العظيم الذي حققه منتخبنا الوطني على منتخب الجزائر في كرة القدم، لا يمكن تجاهله.. من هنا قررت أن أكتب عن الموضوعين معا:
لا يوجد ما يميز نورا هاشم محمد لأنها مثل ملايين المصريات: سمراء ومتوسطة الجمال وفقيرة.. وقد تزوجت من عامل بسيط اسمه هاني زكريا مصطفى وأنجبت منه ولدين وخاضت معه كفاحا يوميا ضاريا من أجل لقمة العيش وتربية الولدين.. وذات يوم أحست نورا فجأة بإعياء شديد..
كانت مباراة منتخبنا الوطني مع منتخب الجزائر، معركة مصيرية ظهر خلالها معدن المصريين الأصيل فتناسوا خلافتهم ووقفوا جميعا صفا واحدا خلف منتخبهم الوطني. ولما كان الإعلام الجزائري قد تورط في السخرية من منتخبنا القومي بطريقة بذيئة فقد قام الإعلاميون المصريون بالرد على ذلك بوابل من الإهانات الموجعة للجزائريين..
وعندما صرحت المطربة الجزائرية وردة بأنها ستشجع فريق الجزائر أحس مصريون كثيرون بالغضب وتساءلوا: كيف تجرؤ وردة على تشجيع الفريق الجزائري وهي التي تعيش في مصر وتنهل من خيرها منذ عقود..؟ وطالب بعض المدونين على الإنترنت بمنع دخول وردة إلى مصر عقابا لها على تقاعسها عن تشجيع منتخبنا الوطني.
في البداية أرجعت السيدة نورا إحساسها بالإعياء إلى قلة النوم وكثرة عملها في البيت، وقد أخفت الأمر عن زوجها هاني حتى لا تزيد من متاعبه. لكن تعبها زاد حتى رقدت في الفراش.. عندئذٍ أصر هاني على اصطحابها إلى عيادة خاصة ودفع الكشف للطبيب الذي فحصها ونصح بنقلها فورا إلى المستشفى.
حرص سيادة الرئيس مبارك على حضور تدريب المنتخب الوطني وقضى وقتا مع اللاعبين ليشد أزرهم قبل المباراة..
والحق أن رعاية الرئيس مبارك للرياضيين معروفة، ولعلنا نذكر عندما مات ألف وأربعمائة مصري غرقا في حادثة العبارة الشهيرة.. فإن حزن الرئيس مبارك آنذاك على الضحايا لم يمنعه من حضور تدريب المنتخب الذي كان يستعد لمعركة مصيرية أخرى في نهائي كأس أفريقيا..
عندما وصل هاني زكريا وزوجته نورا إلى مستشفى صدر إمبابة، كانت الساعة الثانية صباحا.. كشف الطبيب على نورا بسرعة وقال إن حالتها عادية ولا تحتاج إلى مستشفى ثم انصرف، حاول هاني أن يلحق به ليتناقش معه لكنه لم يسمح له بمقابلته..
رجع هاني إلى موظف الاستقبال ورجاه أن يساعده حتى يتمكن من علاج زوجته.. عندئذٍ قال له موظف الاستقبال بوضوح:
إذا أردت أن تعالج زوجتك. ادفع الآن مبلغ 2000 جنيه..
أثناء مباراتنا مع الجزائر، وبالرغم من الخشونة المتعمدة من الجزائريين فقد مارس لاعبونا أقصى درجات ضبط النفس. كما ظهر تدين المصريين العميق واضحا أثناء المباراة وقبلها.. فارتفعت دعوات ملايين المصريين إلى الله لكي يسجل الفريق المصري هدفين على الأقل..
وظهر المطرب إيهاب توفيق في التليفزيون وطلب من المشاهدين جميعا الدعاء للمنتخب، مؤكدا أن في مصر رجالا صالحين كثيرين وهؤلاء قطعا دعاؤهم مستجاب..
أصيب هاني بالذهول عندما استمع إلى المبلغ المطلوب منه، وسأل موظف الاستقبال بصوت خافت إن كان مستشفى صدر إمبابة مازال يتبع الحكومة المصرية؟
أخبره الموظف بفتور أنه مازال يتبع الحكومة لكنه يجب أن يدفع ألفي جنيه.. قال هاني إنه فقير ولا يملك هذا المبلغ.. لم يرد الموظف عليه وانصرف إلى قراءة أوراق أمامه.. بدأ هاني في التوسل للموظف حتى يسمح بعلاج زوجته.
صباح يوم المباراة، صرح الناقد الرياضي المعروف ياسر أيوب في التليفزيون، بأنه في حالة فوز المنتخب على الجزائر والتأهل للمونديال..
فإن كل لاعب في المنتخب سوف يحصل على مكافأة مالية قدرها 6 ملايين جنيه مصري من الدولة واتحاد الكرة.. ولما بدا على وجه المذيعة بعض الاستغراب من ضخامة المبلغ.. قال ناقد رياضي آخر:
اللاعبون في المنتخب يستحقون أكثر من ذلك، لأنهم يبذلون مجهودا خرافيا من أجل إدخال الفرحة على قلوب المصريين.
لما يئس هاني من إقناع موظف الاستقبال في مستشفى صدر إمبابة، أخذ زوجته التي بدأت تترنح من الإعياء والحمى وذهب بها إلى مستشفى صدر العمرانية، حيث كشف عليها الطبيب هناك وقال إنه يشتبه في أنها مريضة بإنفلونزا الخنازير، وأخبره بأنه لا يستطيع علاجها في المستشفى لأنها غير مجهزة لمثل حالتها. ونصحه باصطحاب زوجته إلى مستشفى أم المصريين حيث توجد التجهيزات الطبية اللازمة..
لا يقتصر حب الرياضة على الرئيس مبارك لكنه يمتد أيضا إلى ولديه جمال وعلاء، وقد حرص الاثنان على الذهاب إلى الإستاد لتشجيع المنتخب وذهب معهما معظم الوزراء وكبار المسئولين بمن فيهم وزير الصحة الذي جلس بجوار السيد جمال مبارك مباشرة.. وقد رأينا فرحة كل هؤلاء الغامرة عندما أحرز عمرو زكي الهدف الأول في مرمى الجزائر.
شكر هاني الطبيب وأخذ زوجته نورا وهرع إلى مستشفى أم المصريين، حيث توسل إلى المسئولين هناك حتى ينقذوا زوجته التي بدأت تبصق دما، لكن الطبيب في أم المصريين طمأنه تماما وقال إن حالة زوجته عادية ولا تحتاج إلى الحجز في المستشفى.. ونصحه بالعودة بها إلى مستشفى صدر العمرانية لأنها الجهة المتخصصة في حالتها..
بعد الهدف الأول، وبالرغم من الجهد الكبير والروح القتالية، لم يستطع لاعبونا أن يسجلوا في مرمى الجزائر لمدة 90 دقيقة كاملة.. وقد بان الغضب على وجوه كبار المسئولين الجالسين في المقصورة.. حتى إن السيد علاء مبارك لم يتمالك نفسه وأشاح بيده اعتراضا على إضاعة منتخبنا عدة فرص لأهداف مؤكدة.
عاد هاني من جديد، وهو يكاد يحمل زوجته نورا، إلى مستشفى صدر العمرانية، ولأول مرة يرتفع صوته غاضبا في وجه الطبيب:
ـ لماذا أرسلتني إلى مستشفى أم المصريين إذا كان علاج زوجتي هنا..؟
أكد له الطبيب أن تشخيصه صحيح وأنهم في مستشفى أم المصريين يتهربون من علاج المرضى.. وطلب منه شهادة رسمية من مستشفى أم المصريين بأن حالة نورا عادية وليست خطيرة.. عندئذٍ اعتذر هاني للطبيب عن حدته في الكلام وأخذ زوجته من جديد إلى أم المصريين وطالبهم بإعطائه شهادة بحالة زوجته الصحية...
والحق أنهم هذه المرة عاملوه بلطف، وأكدوا له أنهم سيعملون التحاليل اللازمة لزوجته نورا لكن عليه أن يعود بها في الثامنة صباحا، لأن مسئولة التحاليل غير موجودة (تبين بعد ذلك أنها كانت موجودة لكنها أرهقت من العمل فطلبت من زملائها صرف المريضة نورا بأي طريقة)..
كادت المباراة تنتهي وفي الوقت بدل الضائع، تمكن عماد متعب من إحراز الهدف الثاني في مرمى الجزائر، ورقصت مصر كلها طربا.. بل إن الدكتور حاتم الجبلي وزير الصحة، نسي وقار منصبه والكاميرات المسلطة عليه، وقفز من مكانه واحتضن جمال مبارك ليهنئه بالنصر العظيم.
عاد هاني بزوجته نورا إلى مستشفى صدر العمرانية ليودعها حتى الصباح ثم يأخذها بعد ذلك لعمل التحاليل في أم المصريين، وكانت حالة نورا قد ساءت لدرجة أنهم وضعوها على جهاز التنفس الصناعي ولم تلبث أن لفظت أنفاسها الأخيرة قبل أن تتمكن من إجراء التحاليل اللازمة لتشخيص حالتها.. ماتت نورا هاشم محمد وهي لم تتجاوز الخامسة والعشرين، وتركت زوجها هاني وولدين صغيرين..
ولعلنا البلد الوحيد الذي يموت فيه الناس بهذه الطريقة.. على أن مأساة نورا هاشم محمد لا يجوز أن تعكر صفو فرحتنا بالنصر على الجزائر.. لقد استجاب الله لدعائنا وجعلنا نحرز هدفين نظيفين.. وهكذا أذقنا الجزائريين من كأس الهزيمة وسوف نسحقهم بإذن الله في مباراتنا المقبلة…
مبروك لمصر الوصول إلى المونديال ورحم الله السيدة نورا هاشم محمد…
واقرأ أيضاً:
مِصرُ الجالسة على دكّة الاحتياطي!! / هل أصيب المصريون بمرض استوكهولم؟!