الأمة هي الحل
أرسلت safaa (طبيبة، 30 سنة، مصر) تقول: الأستاذ الدكتور أحمد عبد الله؛
ها أنا أعود بتعليق جديد، ولا أعرف إن كانت تعليقاتي تصلك أم لا، لكنني وكما أرسلت رسالتين منزعجتين من بعض ما يشوب أسلوبك في الكتابة، علي أيضا أن أكتب بنفس الحماس والاهتمام لأحييك على هذه المقالة، والتي حملت نبرة هادئة (بالمقارنة بسابقاتها) وتفصيلا مطلوبا للفكرة، وأحسبك استطعت بنقدك الجاد والهادئ في نفس الوقت لواقع أمتنا أن تضع القارئ المهتم في موقف مكاشفة للنفس ومراجعة للواقع الفردي والجماعي الآن، والآن فقط أستطيع أن أتحدث معك يا سيدي في الفكرة لأقول: هل تعرف أنه مع متابعتي للواقع واستماعي للآراء المختلفة ومتابعتي للمعاني التي تدور حولها مقالاتك جاءني شعور أن ما تحتاجه أمتنا اليوم هو: المترجمين!!!!
فبمتابعتي للواقع ربما أرى (وقد تختلف معي) أن الناس في أوطاننا ليسوا كسالى أو متغابين، لكن كثيرا منهم يقضي وقتا طويلا (جادا مخلصا) في الدوران حول النفس!!!!
وبالمقابل فإن أمثالك من المثقفين والمفكرين وذوي الخبرات العميقة يبذلون قصارى جهدهم في الحديث وانتقاد الأوضاع دون تغيير حقيقي في واقع الناس
وبين هذا وذاك، بين جهد مبذول فيما لا يفيد، وأصوات وكلمات لا تغير واقعا.
سألت نفسي: ترى ما هو الذي ينقصنا ليحدث التغيير
ما هي الحلقة المفقودة؟
ووصلت سيدي إلى أننا نفتقد كثيرا لمن يترجم ما تقولونه وترونه ولا يراه من حولكم إلى لغة يفهمها البسطاء، نحتاج إلى مترجمين، بل نحتاج لمن يترجم لأمثالكم من المثقفين والخبراء أسباب هؤلاء البسطاء وتصوراتهم التي تدفعهم للدوران في الحلقة المفرغة، ربما يستطيعون أن يشرحوا لكم لماذا لا يفهمون كلامكم؟ وأؤكد لك يا سيدي أن ذلك ليس لأنهم أغبياء.
وقد لاحظت انك كثيرا ما تقابل حين تعرض أفكارك بمشاعر الإحباط أو بتساؤلات: طيب ماذا نفعل؟
نحتاج لمن يستطيع ملء هذا الفراغ
من يشرح للبسطاء بلغتهم وبحسب اهتماماتهم ماذا يعني "التحشيش اللذيذ بالدين" الذي يغضبون كثيرا حينما يسمعونك تقوله (ومازلت لا أفضل هذه التعبيرات لكنها حريتك) فهل نستطيع كمهتمين أن نجهد أنفسنا في الترجمة؟ أم سنظل نتحدث بلغة ومن حولنا بلغة فنظل نصطدم وكل طرف يتهم الآخر؟
* تعليق الدكتور أحمد عبد الله
أعترف أنني غاضب لما نحن فيه، وما وصلت إليه أحوالنا، ولكنني بالتدريج أكتشف أن الغاضبين كثير، وأن الغضب وحده لا يغير شيئا ما لم يتحول إلى وعي وخطط وعمل ونظام وتراكم، وهو أيضا ما أحاوله، غير مكتف بالغضب، منذ وقت طويل، ولكن شحنة الغضب حين تظهر ألفاظا وصراخا يحسبه من لا يعرفني، ويدركه من يحزن ويهمه ما يجري، بوصفه أوجاعا، وربما قد يراه البعض هجوما شخصيا أو عاما، وتلك جميعا مشكلات واختلالات في التواصل والتعبير، والتفاهم والصياغات، وإدارة الأفكار والمشاعر، وهي مهارات ومهام نحتاج إلى إتقان القيام بها، لعل وعسى أن يكون لأمتنا مستقبل مختلف عما تظهر بوادره حاليا، ولا يشجع على أي تفاؤل!!
وأشكرك على اهتمامك، وعلى كلمة نقد أو تشجيع تصلني منك، وتأملت في اقتراحك فتذكرت فكرة خطرت لي منذ سنوات طويلة وأكدتها في حياتي خبرات مررت بها، ومعارف وصلتني قراءة أو سماعا، وهذه الفكرة خلاصتها أن حركة الأفكار وديناميات الوعي تحتاج إلى أصناف من الإنتاج، وباختلاف هذه الأصناف فإننا نحتاج إلى أصناف أو طبقات أو أنواع ممن يتعاملون مع الأفكار تصنيعا وتبسيطا ونشرا وتذكيرا، وأذكر من هؤلاء:
المفكر أو الفيلسوف: وهو غالبا صاحب قدرة عالية على التجريد والتعامل مع أصول الأفكار والنظريات ومدارس التفسير والتأمل والتحليل لظاهرة ما، وليس مطلوبا ولا منتظرا من هؤلاء أن يكتبوا لعموم الناس، ولا دهشة ينبغي أن نستشعرها إذا وجدنا لغتهم صعبة أو أفكارهم غير واضحة!!
الكاتب أو الصحفي أو الإعلامي: وهو شخص من المفترض أنه صاحب قدرة مزدوجة تمكنه من ناحية أن يستوعب الأفكار الكبرى، ومن ناحية أخرى أن يقوم بعرضها بأسلوب شيق وميسر شكلا ومضمونا في قالب مقال أو برنامج أو حوار...إلخ (أليست هذه ترجمة)
الروائي والقصاص المبدع: صاحب معادلة مختلفة لكنها تضعه في القلب ممن يصوغون العقول بقدرته على وضع معاني صعبة في أصلها، وتقديمها في قالب حكايات ذات مغزى وتأثير في قلوب السامعين، أو بالأحرى القراء!!
مؤلف الدراما، أو السينما: وهو يتعامل مع الصورة بوصفها أداة لتوصيل المعنى، وليس مجرد الكلمة كما في الكتابة الروائية أو الصحفية لأن وسائط توصيل المعاني متعددة ومتنوعة مسموعة أو مقروءة أو مرئية.
ويمكن أن تكتشفي معي أن من يشتركون في حركية الأفكار وتحريكها هم جمع كبير من أصناف متنوعة ذكرت لك هنا بعضها، ولا صعوبة في اكتشاف الآخرين من شعراء، ومن يكتبون الأغنيات، وحتى معلمي الأطفال في الزوايا والكتاتيب، وكلهم روافع ونواقل لحركة الأفكار في أي مجتمع، فماذا لدينا على أرض الواقع؟!
لدينا بيئة واقعية لا تحترم التفكير ولا الأفكار أصلا، ولا يعنيني هنا كثيرا أن معدلات الذكاء الجمعي أو الفردي لإدارة الحياة اليومية تبدو في الحدود المعقولة لدى الأغلبية، وليس هذا هو قصدي بالغباء حين أطلق هذا الوصف علينا وعلى أوضاعنا حتى تردين بأن الناس ليسوا أغبياء على الإطلاق، إنما أنا أتحدث عن الوظائف العليا للتفكير، وبالتحديد التفكير والثقافة التي من شأنها حل مشكلات الإنسان، وتحسين مستوى وظروف حياته، وتطوير فهمه لذاته، وتواصله مع غيره، بل حتى في علاقته بربه، وحين يكون لدى أي منا عيوب وثغرات هائلة في هذه المساحات، وهو لا يدرك ذلك، بل ويعتقد أنه ممتاز أو على ما يرام، أو ربما يدرك أنه لديه بعض الخلل، ولكنه ليس فادحا ولا أمرا مستعجلا، أو يدرك هذا ولا يتحرك بسرعة ووعي لسد هذه الثغرات المؤذية جدا لنفسه ولمن حوله ولأمته في المجمل!! أنا أسميه "إنسان غبي"، وهذا الإنسان العالة الذي يعيش على هوامش الوجود، ويعتقد لأنه يأكل ويشرب ويتنفس وينمو، ويجلب المال، وينجب العيال أنه قد حقق مراد الله من خلقه!!
هذه الحالة من الغفلة العميقة بل الغيبوبة والغياب بما تحمله من جهل وكسل وبؤس وبدائية في إدراك الذات والدين والعالم، هذه الحالة أوصلتنا إليها مقدمات كثيرة، ومنها إساءة فهم وتوظيف واستثمار هدي الدين فيتحول من ثورة وعي وتحريك وتنمية وسعادة في الدارين إلى مجرد أشكال وطقوس وأيقونات/ صور وكليشيهات وتعاويذ وتمائم وكلام في الهواء يلوكه كل أحد بلسانه زخرفا من القول عن القيم، وعن ضياع الأخلاق، وعن.. وعن.. بينما كل شيء تقريبا ينهار لأن هكذا تدين لا يصلح فسادا، ولا ينقذ واقعا، ولا يسمن ولا يغني من جوع!! وهو بعض ما أقصده بـ "التحشيش بالدين".
قد تطمئن نفس صاحب هذه الطقوس، وهذا لطيف ومريح ومطلوب، وقد يريح النفوس المتعبة أحيانا أن تتخلص من الأعباء والمسئوليات، وتضع أحمال الأخطاء المتلاحقة والكوارث المتوالية على شماعة القضاء والقدر!!
هذه الحالة مريحة حين يصب أحدنا جام غضبه أو يرى كل أو أفدح فساد واقعنا في امرأة تكشف شيئا من جسدها، أو مراهقا يبحث عن معنى في تسريحة غريبة أو تصرفات مريبة، وحين لا يرى أحدنا الشجرة في عينه، ولا يرى إلا العود الدقيق في عين أخيه كما في التراث!!
حين نبدد أوقاتا طويلة، وجهودا عريضة، وطاقات هائلة في معارك حول فروع الفروع من الدين بينما الأصول تضيع، والدنيا كلها تتآكل وتنهار من حولنا وتحت أقدامنا، والأمثلة على ذلك أكبر من أن تعد أو تحصى، هذا هو بعض ما عنيته من قولي عن "التحشيش بالدين"، حين يتحول هدي الله سبحانه عبر سوء الفهم والتطبيق من يقظة وعي إلى حقنة مخدر تريح وتسعد وتمنح وهما بأن كل شيء على ما يرام، أو تعطي شعورا كاذبا بالرضا عن الذات أو الواقع أو التعايش مع الخلل والاكتفاء بالتريقة عليه.. وهذا هو التحشيش بعينه!!!
أعود لأقول أن البيئة العامة التي تحتقر الفكر والأفكار هي ـ ومن الطبيعي أن تكون ـ التي تدور حول نفسها لأنها كسلى لا تريد أن تقرأ وتتعب، وتتحاور وتخطئ وتصيب وتتساءل وتذاكر وتتطلع إلى حركة أفكار في العالم، أو قضايا يعيشها الإنسان، ويقلق بشأنها، وبدلا من "وجع الدماغ" هذا كله تعطي لجامها للوعاظ يقودونها، والواعظ هو من صناع الحياة والمعاني، أو ممن يحركون الأفكار، لكنهم في حالة أمتنا يتصدرون المشهد لأنهم قادرون تماما على ما تظنين أنه مفتقد، إنهم قادرون على التبسيط، لكنهم يلتقطون أفهاما وأفكارا بعينها، وينتقون من الفقه القديم والحديث، والتفاسير القديمة والحديثة، وزخم الأفكار القديمة والحديثة ما من شأنه أن يحافظ على انقياد الناس لهم، ودورانهم في نفس الحلقات المفرغة، وإعادة إنتاج نفس الأنماط والأخطاء، والفشل، مع تغيير الوجوه حتى يظن الغافل أن شيئا قد اختلف بينما نفس القشور ونفس الأفهام تتكرر، ونفس الأخطاء يعاد إنتاجها، وكأننا أمة بلا ذاكرة ضاعت منا آخر الفضائل، وأدني درجات التعلم، ألا وهي درجة التعلم عبر التجربة والخطأ!!
إذن لدينا وعاظ/ مترجمون، ولكن ماذا يترجمون؟! كثير من الغناء المكرر وقليل مما ينفع الناس في مجالات دون مجالات!!!
لكن هذا الوضع يمكن تغييره إذا دخلت إلى هذه الدوائر، "دوائر المترجمين"، أفواج جديدة تحمل أفكارا جديدة ومختلفة، وهناك محاولات جادة في هذا الصدد، ولكنها ليست كافية حتى الآن، لا من حيث الكم ولا الكيف، وطبعا يفيدنا حركة من اتجاه آخر أن يرتفع مستوى الحد الأدنى لوعي الناس واستعدادهم لبذل بعض الجهد في اكتشاف كل منا لنواحي جهله وقصوره وحركته، ولسد ثغرات غبائه الإنساني والاجتماعي في الفهم والحركة والتواصل، ولا أحد يخلو من ناحية هكذا، أو نقيصة هنا أو هناك.
وربما يكون من الحلول أن نبحث عن وسائط أخرى للتفهيم غير الكتابة والقراءة، وربما حان الوقت لدور أكبر لهؤلاء الذين يقرأون لنا ولغيرنا ثم يقولون لنا شكرا تغيرت أفكارنا، والفضل لكم، ولهؤلاء أقول: الفضل لله، وأين جهدكم بناءا على ما تغير في أفكاركم؟!!
هؤلاء الذين تعلموا علما، وهم يكتمونه، ولا يشعرون بأي تأنيب ضمير، أو يحسبون أن دورهم ينتهي بمتابعة هنا أو مشاركة هناك، على موقعنا أو على غيره، إن كان هذا جهدكم فسلام على مجاهدي الإنترنت، ومن تغيروا لأنفسهم فقط!!!
إذا كان الالتزام بالدين قد تمخض فولد نصف متر قماش زيادة في الملبس، ورنة محمول بدعاء أو تواشيح، وبعض من صدقة أو صيام أو نسك، وإذا كان من قرأوا وتعلموا وتغيروا لا يعتبرون هذا مقدمة لمسئولية يقومون بها، أو إعدادا لدور ينبغي عليهم ممارسته، وإذا كنا سنظل نصدح بالصوت، وغيرنا يرى دوره نقدا أو مدحا أو كلمات يكتبها رصا في منتدى، أو على حائط الفيس بوك، ودمتم.
إذا كان أي منتج لأفكار لها نفع ستتوقف حركة أفكاره على قدر ما يستطيع الدعاية لنفسه، وليس على قدر ما تنفع به هذه الأفكار لأننا نضع ميزان أو معيار: من القائل؟! ونسقط تقريبا معيار: ماذا يقول؟!
إذا كان كتاب السيناريو للأفلام، وأصحاب الروايات والمقالات والأبحاث في الجامعات وللنشر في الدوريات تنفذ جهودهم في تدبير تفاصيل البقاء أحياءا منتجين دون أن يبقى لديهم وقت أو فرصة لرغبة التواصل مع الناس قبل الإنجاز وبعده لتكون المعاني والأفكار والإنجاز معالجة لواقع، وليس مجرد زخم إصدار يتكسبون منه!! وإذا لم ينشط المترجمون من العاملين بالإعلام الرسمي والخاص، وممن بدأوا يفهمون فكرة الإعلام المجتمعي حيث المحمول أبو كاميرا في كل يد، وشاشات الحاسوب والمحمول والفضائيات تكاد تصبح موجودة بنسبة شاشة لكل مواطن، وأن هذه بيئة وبنية تحتية مثالية للترجمة ونشر وتحريك الأفكار والمعاني، وتخطيط وتنفيذ التغيير الاجتماعي الذي هو بالنسبة لنا مسألة حياة أو موت.
إذا لم يحصل من هذا شيء سيظل الدوران حول النفس، وضياع الوقت والفرص، وانهيار الواقع يوما بعد يوم!!
أنا أتحرك في أرض الواقع منذ ربع قرن، وبقيت لسنوات طويلة أعمل كثيرا وأكتب قليلا، وحتى الآن فإنني زاهد في الكتابة كطريقة في التغيير، ولكنها تظل عندي وسيطا للتواصل، وتوثيق الأفكار، لعل وعسى!!
النشاط الأساسي ما زال هاجسي الأكبر وهو مساعدة الناس على أن يفهموا أنفسهم وعالمهم ودينهم، وأن يتطوروا وعيا وممارسة، فرديا وجماعيا، وأن يعرفوا مكمن الداء ويكتشفوا بأنفسهم أشكال وأساليب الدواء، وأن نمارس جميعا علاج قصورنا، وتشوهات تفكيرنا وعجزنا عن الفهم والتفاهم، والاتصال والتواصل، والتطوير والتغيير.
الحديث عندي بالكتابة أو عبر وسائل الإعلام هو محاولة للتفهيم، والتحريض على التغيير، وفتح نوافذ الفعل والإبداع والتحرر الشخصي والجماعي من أوهام وأساطير حياتنا الشخصية والعامة، ولا يهمني كثيرا أن يصل الناس إلى نفس ما وصلت إليه أنا من نتائج وقناعات، وبالتالي لا يهمني كثيرا رضاهم عما أقول أو سخطهم وغضبهم منه، ولكن يهمني جدا أن يتحرك وعيهم المغيب، وأن ينشط عقلهم المعوق المعطل المدفون تحت ركام الكسل والهبل والاستسلام اللذيذ للوضع المنحط الذي وصلنا إليه!!
وما أمارسه صعب، ومن يستجيب لهذا الخطاب وهذا الأسلوب غير الشائع ينتفع ويتغير ويتطور على قدر ما يختار ويجتهد.
أنا أعرض بضاعتي، وما عندي على موقعي: وأقابل الناس على الفيسبوك عبر: مجموعة أصدقاء الدكتور أحمد عبد الله، وأتحدث عبر إذاعة "حريتنا" على الإنترنت، في برنامجي الأسبوعي "فش غلك" منذ عام أو يزيد، وأكتب هنا على (مجانين)، وأحاضر أحيانا في لقاءات أو دورات، ولا أتأخر عن المشاركات التلفزيونية أو الصحفية، وأفرح بمتابعة قارئ، أو نقد مؤسس على جهد، لكن سعادتي تتضاعف حين يتواصل معي أحد هؤلاء ممن لديهم قدرة المواصلة، وصبر الإنصات، وأفكار التطوير، أحسبك منهم، وقليل ما هم!!
واقرأ أيضًا:
على باب الله: فصل: في قولهم: من لا شيخ له، فالشيطان شيخه/ على باب الله: -البحث عن قلة -بمناسبة قمة المناخ