بماذا نقيس قوة دولة أو جماعة أو حتى فرد؟
القوة المنفصلة عن مسيرة التطور، وعن صالح عموم النوع، لا تستحق أن تسمى قوة مهما بلغ عنفوانها، اللهم إلا إذا اعتبرنا خلايا السرطان أقوى من الخلايا الحية لمجرد أنها قادرة على أن تحل محلها وتدمرها.
أغلب ما يسمى "قوة" حالياً هو من هذا النوع الخطر على الحياة، وليس القادر على الحفاظ عليها، قوة الدول المعاصرة اليوم تحسب بالسيطرة النووية الحربية، والمبادرة بالحروب الاستباقية، ومساحة الإبادة العرقية، والقدرة على استعمال الآخرين عبيداً تابعين، وعلى استغلال مواردهم الطبيعية لصالح رفاهية الأقوى. أصبحت القاعدة السائدة حتى في التعاملات الرسمية الدولية هي: أن الحق، والعدل، والمنطق، هو ما يقوله أو يشير به أو يوافق عليه الأقوى فالأقوى، مهما بلغ الظلم واختلت الموازين. ويا ليت الأقوى هو ما تمثله سلطة الدول الظاهرة القادرة المالكة لأداة الحرب فالقهر فالإغارة فالاستغلال فالاستعمال، إذن لهان الأمر –نسبياً- ذلك أن أية قوى ظاهرة، ومهما بلغ عنفوانها، فإن مجرد ظهورها على السطح، يسمح لنا برصد خطرها، كما يعطي فرصة لحساب آلياتها، ومن ثم لأمكن الاستعداد لمواجهتها، ثم الانتصار عليها ولو بعد حين، هذا هو ما حدث عبر التاريخ غالباً.
الأمور الآن أصبحت أخطر وأكثر تعقيداً، القوة الآن التي تحكم العالم هي قوى خفية خفاءً خبيثاً متمادياً، وبالتالي فهي لا تهدد المظلومين والمستضعفين فحسب بل تهدد النوع البشري كله، بما في ذلك المسيطرين السريين والعلنيين أنفسهم، وللأسف هم لا يدركون هذه الحقيقة البسيطة، التي تقول: إن انقراض نوع من الأحياء لم يستثن الفئة الأقوى (الصفوة!) من هذا النوع. ثم إنه كلما زاد خفاء القوى المتحكمة، زاد عماها، واستشرى غباؤها حتى لا ترى الخطر عليها نفسها.
أصبح من نافلة القول أن نعدد تلك القوى الخفية كما تكرر مني ومن غيري مئات المرات ذاكرين أنها الشركات العابرة للقارات، ومافيا المخدرات، والدعارة حتى دعارة الأطفال، وتجارة المخدرات. كل هذا صحيح، لكن يبدو أن علينا أن ننتقل خطوة أعمق إلى النظر في الخطأ التطوري الجاري الذي أفرز هذه القوى هكذا، ثم أخفاها تحت لافتة مختلف السلطات من أول السلطة السياسية الحاكمة، إلى السلطة الدينية القامعة على حساب حركية الإيمان نحو الحق تعالى، إلى القوى التخزينية التراكمية التي تصب في وجود قلة منتجيها حتى تكاد تخنقهم هم أنفسهم قبل وبعد تجويع وإبادة من يستغلونهم.
أحياناً أسمح لتفكيري التآمري التطوري أن يتمادى حتى أتصور أن ثمة قوى شديدة الشذوذ والتدمير قد تكونت في ظروف سلبية لا نعرف أغلبها، وأنها قادرة على أن تؤدي إلى إفناء النوع البشري فعلاً، ليس بأسلحة الدمار الشامل، وإنما بأخطاء الغباء التدهوري الكاسح. هذه القوى التدهورية لا تستثني استعمال العقل البشري الظاهر والعلماء الأدوات، وكل إنجازات البشر لصالح أغراضها التدهورية التي لا تعلم هي عنها شيئاً.
احتمالات انقراض البشر كنوع- نزعم أنه بقي شامخاً فوق قمة القلة من الأحياء الذين نجحوا في الهرب من قدر الانقراض (أكرر: واحد في الألف)، هي احتمالات واقعية، وليست تفكيراً تشاؤمياً أو تآمرياً، الأسباب القادرة على إبادة الجنس البشري أصبحت من الوضوح أكثر بكثير من الأسباب المحتملة التي تفسر انقراض الديناصور، لا أحد من علماء التطور يعرف حتى الآن -بشكل جازم- السبب الحقيقي لانقراض الديناصور، أهو جين سيء غير صالح، أم كارثة طبيعية. أما العلامات المنذرة لاحتمال انقراض الجنس البشري فهي أوضح وأكثر منطقاً، خاصة وأنها في ازدياد مستمر. وفيما يلي بعض عناوينها:
٠ انفصال الإنسان عن الطبيعة، ثم محاولة السيطرة عليها، لا التلاؤم معها.
٠ سيطرة العقل الأحدث، على حساب العقول التي حفظت التطور وما زالت بداخلنا.
٠ فقد التكافل بين نفس النوع - بين البشر وبعضهم بعضاً.
٠ فقد التكافل بين الأنواع - بين البشر وسائر من تبقى من الأحياء.
٠ لا منطقية تراكم الثروات عند الأقل فالأقل على حساب الغالبية العظمى من النوع.
٠ الاستسلام لحكم العالم بقوى سرية بعيدة عن متناول المؤاخذة والحساب فالتغيير.
٠ التخزين المتمادي والاحتكار الإبادي، لتصبح أدوات البقاء حكراً على قلة نشاز.
٠ انفصال الوعي الفردي عن الوعي الكوني نتيجة لتوقف حركية الإيمان كدحاً إبداعياً.
٠ إجهاض الإبداع بالجنون، وأيضاً: بسوء التعامل مع بداياته المشتركة مع الإبداع.
٠ تمادي الظلم نتيجة التحالفات بين الأكثر سيطرة وعنفواناً - أنظر قبلاً.
٠ ...وغير ذلك، قف: قد وصلت للحد الأقصى للكلمات.
وبرغم كل ذلك:
فسننتصر عليهم، بنفس آلياتهم بعد أن نستعملها لصالحنا.
نشرة في الدستور بتاريخ 24-10-2009
اقرأ أيضا:
... فإن أعطوا منها رضوا، وإن لم..... / متى نتعلم كيف نكسب لنثابر، وكيف نخسر لنبدأ؟/ أخيراً السماح بتكوين الأحزاب، وإلغاء الأحكام العرفية!