قلت للابن الذي جاء يستشيرني استشارة من إياها من قبيل ضعف التركيز، والصداع، والدوخة، ومثل هذا الكلام الذي روجنا له نحن الأطباء النفسانيين على أنه أمراض واضطرابات نفسية، قلت له: "كل ما أرجوه منك هو أن تذاكر يومياً خمس ساعات، بفهم أو بدون فهم، بتركيز أو بدون تركيز، حتى ولو تنقل الكتب نقل مسطرة، كأنك تحسّن خطك، وستكتشف أن المخ البشري عاجز عن عدم التركيز"، خيّل إليّ أنه اقتنع إذ ابتسم نصف ابتسامة، لكن وجه أبيه اكفهر جداً، وحين رجحت أن الرسالة قد وصلت للشاب، أكملت: "إنه بالإضافة إلى ذلك، عليك أن تذهب يومياً إلى المدرسة، هذا علاج"، ابتسم الشاب في دهشة ذكية، وردّ بأدب جمّ:"مدرسة ماذا يا دكتور؟" قلت له: "مدرستك يا ابني"، قال: "أنا في الثانوية العامة"، لم أفهم وإن كنت قد تذكرت مثل هذه الإجابات من آخرين، لكنني مضيت حتى النهاية، وعقبت: "إن هذا أولى بك أن تذهب إلى المدرسة"، فيكرر الشاب وكأنه يوعّيني أنه "لا يوجد شيء اسمه مدرسة بالنسبة للثانوية العامة"، ويضيف والده مشفقاً على جهلي: "ولا لغير الثانوية العامة"، وأفهم أن الطلبة والطالبات إن ذهبوا بضعة أيام في أول العام لاستلام الكتب، أو للاتفاق على الدروس الخصوصية، فإن ذلك ينتهي بعد بضعة أسابيع على الأكثر"، (نحن في أواخر ديسمبر)، كل هذا دون ربط مباشر بالكادر الذي ثبت أنه مجرد علاوة تشجيعية لإتقان الدروس الخصوصية، وأيضاً دون ربط بإنفلونزا الطيور، أو بمعركة أم درمان الكروية، أو بالنظام العالمي الجديد، أو بهامش الديمقراطية، أو بلجنة الأحزاب، أو باحتمال ترشيح د. محمد البرادعي.
هذه هي الحقيقة عارية: يبدو أنه لا توجد مدارس بالمعنى الذي كنا نعرّف به ما هو مدرسة من عشرات السنين.
إذن ماذا؟
يشاء السميع العليم أن يظهر مؤخراً عامل طريف يكشف مدى ما آلت إليه حال مدارسنا، ومن ثم استهانتنا بدورها، وفي نفس الوقت تزايد حرصنا على صحة شكلية لا نعرف لها تعريفاً، وعلى حياة لا نعرف لها هدفاً، هذا العامل هو الإشاعة التي عرفت باسم: "انفلونزا الخنازير".
لن أناقش هنا افتقاد هذه الإشاعة إلى أي أساس علمي حقيقي "مقارن"، حتى لا أستدرج إلى هجوم حسني النية أو المرتزقة والمرتعِبة، لكن أي شخص عادي، يتابع الأخبار والأرقام بمنطق سليم، لا بد أن يعرف أنها إشاعة برغم أنف منظمة الصحة العالمية، ونتائج المعامل الملتبسة، وشركات الدواء والأمصال، وسياسة السوق، وتجار الخوف، والإرعاب، والإلهاء. إن مجرد تذكر هؤلاء الملايين من الحجاج يعودون سالمين آمنين (بفضل الله عليهم وعلى غيرهم)، ثم مشاهدة عشرات الآلاف من مشجعي الكرة يرجعون إلى بيوتهم، دون عطسة واحدة (إلا العطس الذي حدث مثله العام الماضي!)...إلخ، ثم جولة وسط هذه الجموع التي تنحشر في سوق الجمعة على طريق الأتوستراد في غاية التماسك والفقر والطيبة والأمراض الأخرى!.. إلخ. نظرة منطقية بسيطة لأي من هذا أو ذاك لا بد أن تبلغنا حقيقة الأمر، حتى الذين ماتوا بعد ارتفاع الحرارة وبعض السعال وخشخشة الرئتين، وبرغم التحليل الإيجابي، لا يمكن الجزم بسبب وفاتهم الحقيقي المباشر، واسألوا الطب الشرعي، فمريض السرطان مثلاً قد يموت بالسكتة القلبية.. ومريض التيفوئيد قد يموت بهبوط في الدورة الدموية.. إلخ.
هذا عبث عالمي مغرض، لقد استعملوا العلم لخدمة سياسة السوق الأخبث، كما استعملوا الحروب لمص دماء أصحاب الحق لمجرد أنهم ولدوا فوق أرض تحتها مخزن وقودهم. لم يعد خافياً ما هو النظام العالمي الجديد، وكيف تدعمه المنظمات العالمية حتى على مستوى صحة البشر.
الأهل معذورون حين يحرصون على صحة أولادهم وبناتهم، وهم يحجبونهم عن المدرسة، ولسان حالهم يقول: كلها محصلة بعضها، ماذا فعلت المدارس الخاوية على فصولها في الأعوام السابقة؟.
وبعد،
خطر لي اقتراح استلهمته من الجدل الدائر حول دعم الخبز، وهو:
نستغني عن المدارس تماماً، ونمنح كل ولي أمر يعول أولاداً وبناتاً بدلاً نقدياً، على أن يحلف على المصحف أو الإنجيل أو ميثاق الأمم المتحدة أمام مجلس الحي أنه سينفقه في تعليم ابنه أو ابنته، ثم نوجه المدرسين والمدرسات الذين يثبت بتحري المباحث العامة أنهم عجزوا أن يعطوا دروساً خصوصية، إلى القيام بإعطاء دروس دينية في المساجد والكنائس، لحين الحصول على عقد عمل في بلاد متخلفة، ما زالت تحتفظ بشيء اسمه "مدارس" كما كان الأمر عندنا في سالف العصر والأوان.
نشرت في الدستور بتاريخ 26/12/2009
اقرأ أيضا:
تحالف قوى الانقراض... ولكننا نحن البشر سننتصر! / أخيراً السماح بتكوين الأحزاب، وإلغاء الأحكام العرفية! / تعتعة سياسية: مجلس الظل، لأمناء الدولة والدجستور!