دع جانبا الحكام الآن، كان الله في عونهم فقد أشبعناهم نقداً ومعايرة بأنهم لا يعرفون ماهية السياسة أصلاً، حقيقة أن هناك مؤتمرات وصحف وخطب واجتماعات، لكن يبدو أنها ليست لها علاقة بما هو سياسة.
خطر ببالي أن أتقمص بعضهم، فعذرتهم، حين تصورت أن لسان حالهم يقول: ما دام الناس تخلوا عن السياسة، سواء باختيارهم أو بفعل فاعل، فالنتيجة أننا شعب ليس سياسياً، وبالتالي فنحن لا نحتاج لساسة يسيرون أمورنا، وإنما نحتاج إلى مدراء، ورؤساء مصالح، ومختصون، وضباط، ولا مانع من بعض المؤتمرات والخطب والوعود على ناحية، وكثير من الصحف والصياح والاحتجاجات الطيبة وغير الطيبة على الناحية الأخرى.
هل الأمر كذلك فعلاً؟.
أنت سياسي فاعل محترم، لو كان عندك فرصة أن تشعر وأنت على وشك النوم، أنك قادر في الصباح التالي، أن تشارك غيرك في تغيير ما رأيت أنه يحتاج إلى تغيير، مما يضرك أنت وغيرك، إلى ما يفيدك أنت وغيرك، ليس معنى ذلك أنك مصيب وهم مخطئون، مجرد أن تشعر أنك قادر على ذلك، حتى لو عجزت عن تحقيقه قرون عدداً، حتى لو كنت مخطئاً، إلا أن شعورك بالمقدرة على ذلك، مع توافر إمكانية ذلك، يصنفك سياسياً ملء الدنيا بأسرها.
حتى الآن، لا توجد وسيلة لتنفيذ هذا الذي خطر على بالك سوى ما يسمى الديمقراطية، وأبسط صورها هو أن يكون لك صوت انتخابي (بالهوية لا داعي للبطاقة، فأنت سياسي بمجرد أنك مواطن)، من حقك أن تضعه في صندوق، وراء ستارة، وأنت لست خائفاً ولا شاكّاً، وأنت تعتقد أن صوتك هذا سيحقق ما خطر ببالك قبيل النوم، لأنك اخترت الشخص الأقدر على تحقيقه، تفعل ذلك وأنت تشعر –ولو من باب البله– أن هذه الورقة التي وضعت في هذا الصندوق لها قيمة، إذا انضمت إلى أوراق أخرى مثلها، علّمت على نفس العلامة التي علّّمت أنت عليها، حققت ما خطر ببالك قبيل النوم.
هذه اللمسة الأخيرة (الورقة والصندوق والأمان)، تحتاج إلى إعداد سياسي جيد، تحتاج لما يسمح لك أن تلم بقدر من المعلومات يلزمك لاختيار من يسيّر أمورك، وتحتاج إلى فرص لتبادل اختبار هذه المعلومات مع آخرين يختلفون معك، وربما تغير رأيك قبل خطوة "الصندوق"، تحتاج إلى مساحة من الحركة والحرية تسمح بتبادل هذه المعلومات وتلك الآراء، تحتاج إلى وعي مسؤول حتى لا تكون المسألة انفعالية لأنك تحب هذا وتكره ذاك، وإنما هي عملية نفعية لصالحك شخصياً، وصالح ناسك (لا ينفع أن تكون لصالحك وصالح قريتك وصالح قبيلتك دون سائر ناسك، هذه ليست سياسة)، وبذلك تطمئن أنك محترم، تعيش في بلد محترم، وهذا معناه أن هذه العمليات السالفة الذكر (حتى وصول ورقتك إلى الصندوق) قد جرت في جو من العدل وبعدد من الفرص سمح لك أن تسمع وأن تقول، أن تختبر وأن تراجع، وبما أن كل ذلك غير متاح أصلاً في هذا البلد الأمين، فكيف نتحدث عن بدائل، أو تداول للسلطة، أو عن ضعف المعارضة، أو عن سياسة أصلاً؟.
في البلاد التي تمارس السياسة عن طريق ما يسمى الديمقراطية، إذا جالَـستَ مواطنا له حق الانتخاب، كما أفعل في أحيان ليست قليلة مع أبناء وبنات لي، سافروا أو هاجروا، وتجنسوا، واستقروا، وتعايشوا، وتحاوروا، وشاركوا، حتى أصبح لهم ما يسمى صوت انتخابي، في مثل هذه البلاد أحضر أحياناً مناقشات بين أب وبناته حول مائدة عشاء مثلاً، وهم يتناقشون من ينتخبون في البرلمان الأوربي، وليس فقط في فرنسا (مثلاً)، أي والله، وكل فريق يحاول أن يقنع الآخر بمن يفضله ليتولى شؤونهم في السنين القادمة، ويشتد الحماس، لا الشجار، وكل يأمل أن يغير بلده بصوته هذا، وبصوت من يقتنعهُ بوجهة نظره، ومن ثمَّ يغير العالم معه.
بصراحة أفرح أن أحد أبنائي أو إحدى بناتي تساهم في اختيار ممثل في البرلمان الأوربي، فالوطني، بكل هذا اليقين أن صوتهم قادر أن يسمح بما يسمى البدائل أو تداول السلطة، وأمتلئ غيظاً وأنا ليس لي في الأمر شيء في بلدي.
ما زلت أكره الديمقراطية وأتحفظ عليها، فهي من أسوأ ما يجري عبر العالم بعد أن تولى أمر الحرية غير أهلها، لكنها –كما علمني شيخي محفوظ– أحسن الأسوأ، فليس أمامي إلا أن أكون ديمقراطياً رغم أنفي، حتى يبدع الإنسان آلية أقدر، تنقذه من الديمقراطية وعكوساتها الأسوأ.
يقول مثل مصري رائع "قال يلعن أبوك اللي مات مالجوع، قال هوا لقى أكل ولا كلشي".
هل يمكن تطبيقه قياساً:؟ "جتكوا خيبة مابتمارسوش السياسة، قالوا هوا احنا لقينا سياسة وما مرسناهاش؟!".
نشرت في الدستور بتاريخ 18-11-2009
اقرأ أيضا:
اقتراح: إلغاء المدارس، ومنح بدل نقدي للتعليم!!! / تعتعة سياسية: مجلس الظل، لأمناء الدولة والدجستور! / مسؤولية التحريض، ودفاع انتقائي عن الكرامة!!