لو أن إسرائيل أرادت بموسادها، وإعلامها، وتكنولوجيتها أن تحدث شرخاً بين مصر والجزائر، بهذا الاتساع، وهذا القبح، فكم كانت ستحتاج من سنوات، وكم كانت ستنفق من مليارات، وهل كانت ستنجح هذا النجاح الساحق هكذا؟!.
اتصلت بي أربع قنوات فضائية (على الأقل)، تطلب مني الاشتراك في التعليق على الأحداث الأخيرة، واعتذرت:
أولاً لأنني لم أشاهد المبارتين ولا ما حدث بعدهما مباشرة (صدق أو لا تصدق!!)،
وثانياً: لأن المعلومات التي وصلتني كانت متضاربة ومتناقضة، في كثير من الأحيان،
وثالثاً: لأنني لم أضمن موضوعية الحوار وسط هذه الهيجة الإعلامية العمياء.
ومع ذلك تتبعت الجاري في كل الصحف المتاحة والمواقع المعنية، لمدة أيام، فإذا بي أمام سيل هائل من الغباء والعبث والوقاحة والغوغائية والردة، وبالرغم من عثوري على عاقل هنا، وتحليل موضوعي هناك، وقصيدة جميلة في الأهرام، فإن أغلب ما وصلني لا يمكن أن يتصف إلا بالسطحية، والانفعالية، والشوفينية، والبله، ثم إني قد أحسست أن قوى خفية تستدرجنا بخبث إلى ما يريده العدو تحديداً، (والعدو ليس إسرائيل أو أمريكا فحسب، وهو ليس عدونا نحن فقط، بل هو عدو كل الشعوب، من داخلنا، ومن خارجنا).
تفكير تآمري هذا؟ أوافق! أحسن من الجاري!!!.
أمسكت بالقلم فحضرتني مسائل كثيرة، وعناوين تنافست فيما بينها حتى عجزت أن أختار أيها أولى بالتقديم، ثم ساءلت نفسي، وماذا يفيد أن أكتب في أي منها عشرات الكلمات، ثم أنشرها في زاوية محدودة، لتصل إلى أقلية لا أظن أنها قادرة حتى على إبطاء تدفق هذا السيل الهادر من الانفعال المتسارع نحو هاوية مظلمة. هذا فضلاً عمّا سأناله من رفض وشجب، وربما اتهام بالخيانة!!.
انتهيت إلى أنه من الأفضل أن أعدل عن الكتابة في هذا الموضوع مباشرة أو تفصيلاً، لكن سطوراً عاصية تسربت مني رغماً عني، لعلها تكون عناوين لتعتعات لاحقة:
1. هناك جهل شديد بالتركيب البشري، حين ينكر الإنسان المعاصر قوة غريزة أساسية هي العدوان (حتى القتل) ينكرها بداخله، ثم يخفيها تحت ستائر من مظاهر حضارة متحيزة، أو سلام ملتبس ظالم، أو أخلاق سلطوية، فتشتعل الحروب، ثم ها هو يفشل وهو يحاول إحلال التنافس الرياضي على مستوى العالم محل الحروب (راجع كيف نشأت الأولمبياد منذ سنة 776 قبل الميلاد، وهل أدت وظيفتها؟).
2. لا يجوز بحال لوم الناس الذين برمجهم إعلامٌ مغرض، وغير مسؤول على أحد الجانبين دون الآخر، مع اختلاف التعبير، فإشعال النار في الميادين ليس أقل بدائية في التعبير عن الفرحة، من الهجوم على الخصم وأنصاره بمبالغات ينبغي مراجعتها مهما تواترت الروايات.
3. إن تهييج الناس بإشاعات قتل لم يحدث هو أمر مثير للعجب، إذا قورن بما يجري من إلهائهم عن طريق نفس الإعلام عن القتل الجماعي الذي جرى ويجري بالألوف، بطريق مباشر أو غير مباشر، على يد أمريكا في العراق، أو إسرائيل في فلسطين،... إلخ إلخ.
4. إن الكرامة التي قيل أنهم وطأوها بالألفاظ الوقحة والصور البذيئة، قد وُطئت مئات المرات ليس فقط في ساحات القتال مع العدو الحقيقي، ولكن أيضاً على موائد المفاوضات، وفي مجلس الأمن وفي أروقة الأمم المتحدة نفسها، ولم نَرَ من هذا الإعلام نفس النخوه والإثارة، ولا عشر معشارها، للحفاظ على كرامتنا بما ينبغي، كما ينبغي.
5. إن اختزال الوطن إلى ملعب كرة، واختزال الانتماء للوطن والعمل له والإبداع فيه إلى تشجيع فريق في مباراة، هي جريمة سياسية، خبيثة، أو غبية على الأقل.
6. إن الإسراع بالتفسير والفتوى استناداً إلى معلومات ناقصة، ومشاهد منتقاة، وأحداث منقطعة عن سياقها، هو عمل غير علمي، وأحياناً غير أخلاقي.
7. إننا –على الجانبين– حين أنكرنا على أنفسنا حقنا في رد العدوان بالعدوان في ساحات القتال المستمر، واستبدلنا ذلك بالسلام الذي لا يكون كذلك إن لم نمارس إمكانية إطلاق طاقة العدوان في إبداع حضاري حقيقي، حين حدث ذلك، ارتد العدوان كبتاً إلى داخلنا، ثم من داخلنا إلى عدوان بعضنا على بعض.
8. إن العدوان، كغريزة طبيعية، لا يستوعبه الإنسان المعاصر إيجابياً إلا بالإبداع الذي يفكك القديم اقتحاماً ليصنع منه جديداً (أنظر إن شئت أطروحة "العدوان والإبداع") نحن إن لم نطلق عدواننا على من يعتدي علينا، أو نبدع به وجودنا إذ نحطم من خلال ذلك قيود الجمود والظلم والقهر، فسوف نصير إلى ما صرنا إليه، وهم يتفرجون علينا فرحين أو شامتين وكأنهم يشاهدون مصارعة الديوك!!.
نشرت في الدستور بتاريخ 25-11-2009
اقرأ أيضا:
تعتعة سياسية: مجلس الظل، لأمناء الدولة والدجستور! / هل أنت سياسي؟ يعني ماذا؟ / كل عام ونحن، وأنتم، من جنس البشر العظيم!