حين ساورتني هواجس تشككني في مقدسات شائعة كثيرة، هتف بي من داخلي ذلك الناقد العظيم المسمى "أنا"(أيضاً) ينبهني أنه "لكلِّ من ولدتْه أمه وطنْ، مثل الوطنْ"!! فزعتُ وكأنه ينهاني عن أن أحب وطني، كان ذلك ضمن قصيدة قديمة (لم تنشر طبعاً) كتبتها في فبراير سنة 1982، بعد ذلك راح هذا الناقد يدعوني –نثراً– إلى مراجعة القول الجميل السائد "إنني لو لم أولد مصرياً لوددت أن أكون مصرياً"، فابتدعت لعلة كاشفة، هي أن تقول: "إنني لو أولد مصرياً لوددت أن أكون "........"، وعليك أن تكلمها بأن تختار أي جنسية تخطر ببالك: "مصرياً، استرالياً، سويدياً، أو يابانياً"... إلخ فكشفتْ اللعبة أوهام التقديس بشكل أو بآخر.
ما الحكاية بالضبط؟ ولماذا نحب مصر هكذا جداً جداً، وكيف نحبها؟ وهل يمنعنا حبها هكذا أو غير هكذا، من أن نحب ناساً أُخَـر من وطن آخر، فما بالك إن كان هذا الوطن هو وطن شقيق وجار وزميل كفاح التحرير من استعمار الخارج قديماً ثم الداخل حالياً؟.
عدت أتساءل: ألم يئن الأوان أن نستغل تلك الثورة العملاقة، ثورة التوصيل والتواصل، فيما يليق بنقلة الإنسان المعاصر إلى ما هو جدير به من تطور إلى أرقى؟ هل تنجح هذه التكنولوجيا النشطة الممتدة في أن تذيب الحواجز تدريجياً بين الأوطان، وتقرب الناس بعضهم ببعض دون منتصر ومهزوم، هل تنجح هذه الثورة فيما فشلت فيه الأيديولوجيا الأممية الشيوعية الباكرة، (يا عمال العالم اتحدوا) حتى فشل النظام العالمي الأمريكي الجديد؟ هل ينجح الناس مع بعضهم بعضاً فيما فشل فيه كذب الحكومات وتشويه الأديان في تخليق مستقبل بشر أفضل؟.
لقد خلق الله البشر شعوباً وقبائل ليتعارفوا، فهل تسهل لهم التكنولوجيا الحديثة أن يعيدوا فهم رسالة الأديان الكريمة، فيتعارفوا، ويتآلفوا، ويتكافلوا، فينقذ الجنس البشري من الانقراض الذي يتهدده أكثر فأكثر؟.
خطرت لي هذه التساؤلات من جديد، وأنا أتساءل عن الذي جرى في القاهرة والخرطوم: هل هذه دلالة وطنية، أم دلالة ردة نحو الانقراض؟ الأرجح أن الحكام المرعوبين من شعوبهم استغلوا جوع الناس إلى وطن بعد أن أفرغوهم منه، فهيأوا لهم أن ترتد طاقة العدوان إلى نحورهم، وفيما بينهم وبين أشقاء لهم، بعد أن حرمونا من توجيه العدوان المشروع إلى العدو الحقيقي للبشر: إسرائيل التي جسدت مؤخراً موقفها المرتد ببناء هذا السور الجريمة، ليمثل أمامنا عيانياً: التحام التعصب الديني، بالتعصب الإثني، بالتعصب الوطني، ليصبح مبكى حديثاً نبكي عليه أحلام الإنسان أن يكون إنساناً بحق، يتجاوز تعصبه، وتقديسه لأصنام كثيرة،
وفيما يلي بعض القصيدة التعرية:
...... لمَّا تمايل جمعُهم مكبَّراً، مهللاً،
في حب أرضنا الوطنْ،
أفرغتُ وعيي من وِصاية حكمتي،
وأذبتُ نفسيَ هاتفاً:
"يحيا الوطن".
فأطلَّ من بين الضلوعْ،
ابنُ السفاح الباسمُ المستهزئُ:
ومضى يدندن ساخراً، ليغيظني:
"لكلِّ من ولدتـهُ أمُّه وطن،
مثل الوطن"!!!
يـا أرض ربّي قد وسعتِ الناسَ والسباعَ والطيور والحجارة،
لكنني أرنو لشبَرٍ واحدٍ: "أنا".
يضمّ عظمي يحتويني رحِمَاً.
.......
ثم إني اكتشفت قصيدة أسبق تصالحني على معنى آخر لما هو "مصر" كتبتها سنة 1975 بالعامية المصرية الجميلة الأقدر على احتواء "مصر" أخرى قلت فيها:
.........
دانا لما بابُصّ جوّا عيونِ الناسْ،
الناسْ من أيّـها جنسْ،
بالاقيها فْ كل بلاد الله لخلق الله.
وفْ كل كلام،.. وفْ كل سكات.
وفْ كل مين قال خـُدْ أو هاتْ
يبقى باشوف مصر
وإذا شفت الألم، الحب، الرفض، الحزن الفرحهْ في عيونهم..
يبقى باشوف مصر.
وباشوفها أكتر لما بابصّ جوايا.
والناس الحلوين اللى عملوا حاجات للناس،
كانوا مصريين!!
.....
"كل واحدْ همّه ناسُهْ،
كل واحد ربـّهْ واحدْ،
كل واحد حـرّ بينا،
يبقى مصري"
تبقى مصر بتاعتى هي الدنيا ديـَّا كلها،
هي وعد الغيب،
وكل الخـلـق،
والحركة اللى تبني.
(19 إبريل 1974)
هل آن الأوان أن ننتبه إلى أن تقديسنا لوطننا، لا يتعارض مع تقديس الآخرين لأوطانهم، بل إنها البداية الكريمة لنكون شعوباً وقبائل نتعارف لا نتعارك حتى نتقاتل بسبب الكرة أو البترول أو الغطرسة أو الكفر؟.
وكل عام ونحن وأنتم من جنس البشر العظيم.
نشرت في الدستور بتاريخ 2-12-2009
اقرأ أيضا:
هل أنت سياسي؟ يعني ماذا؟ / مسؤولية التحريض، ودفاع انتقائي عن الكرامة!! / كيف استطاع نجيب محفوظ أن يحِب: كل هذا الحب؟!!