بعد غد، في مثل يوم 11 الجاري سنة 1911، ولد إنسان مصري فعلاً، طيب ورائع وفريد، اسمه نجيب محفوظ. يشاء السميع العليم أن أرافقه قريباً جداً لمدة أكثر من عشر سنوات قبل رحيله، تعلمت منه، وما زلت أتعلم، تعلمت من كتاباته، ونقدها، ونقدي لها، ثم تعلمت من صحبته وريادته وحضوره وغيابه. في بداية صحبتي له، ولمدة الثمانية أشهر الأولى، اعتدت أن أسجل يومياً بعض ما يتبقى في ذاكرتي من لقائي معه، رحت أقلب في تلك الأوراق فوجدت ما يستأهل أن أقتطفه نتعلم منه معاً الآن، هكذا:
الجمعة 3 / فبراير / 1995
..... ثالث أيام رمضان، المكان جديد، لكنني أحسست أن الأستاذ اطمأن إلى الأماكن التي أقترحها وأعدّها، حضر أحد مريدي الأستاذ القدامى من الذين كانوا يواظبون على جلساته في قصر النيل، الصديق يوسف عزب، وذكّـره بنفسه، وبالصحبة التي كانت تحضر تلك الجلسات، وكنت قد اتفقت مع د. زكي سالم على مثل ذلك ما أمكن ذلك، حين حضر "يوسف": تذكرت أنه كان قد قال لي أن الأستاذ لا يحب جمال عبد الناصر، انتهزتها فرصة لأستوضح ذلك مع استبعادي له، لعلمي بقدرة الأستاذ على الحب بتشكيلات متعددة، هو لا يحب هكذا والسلام، علما بأنه لا يستعمل "كلمة الحب" إلا نادراً، هو يمارس الحب، يفعل الحب، لا يحكيه، كنت –غصباً عني– أقيس مشاعري بمشاعره، وحين أعجز عن أحب أحداً ممن يجلسون معنا، ثم أجده يحيط نفس هذا الشخص بكل رعاية ويتحمله بكل صبر، يملؤني الغيظ من نفسي، وأفرح –مغيظاً- بهذه القدرة التي لا أملكها: "مِنْ كلٍّ بحسب ما هو، وإلى كلٍّ بحسب ما يحتاج"، دون أدنى مجاملة أو تعالٍ. كيف هذا؟ كيف يستطيع ذلك؟.
في كثير من الجلسات اليومية، وخاصة جلسة "فرح بوت" كل ثلاثاء، يجيء ذكر عبد الناصر، مصحوباً بزيادة صفة "العظيم" من يوسف القعيد، كان الأستاذ يشاركنا الضحك على الجانبين: مرة ويوسف القعيد متحمس أشد الحماس، ومرة وعماد عبودي أوحسن ناصر منتقدين حاد الانتقاد، لاحظت أن الأستاذ يعرف عيوب عبد الناصر بشكل محدد وواضح، ولكني لم ألاحظ حكاية أنه لا يحبه هذه، سألته مباشرة: هل تحب عبد الناصر، قال بلا ترد، "نعم أحبه"، قلت له أنا أعرف أنك تحب كل الناس، ولكنني أسأل هذا السؤال بعيداًً عن السياسة وحتى عن أخطائه وعن إنجازاته، أسأل عن شيء لا أعرف له تعريفاً محدداً، وهو الحب 'هكذا' والسلام، قال مرة أخرى مؤكداً: "طبعاً أحبه، أليس زعيماً لأمتي؟ كيف لا أحبه!!"، قلت له -وأنا أشعر بسخفي يتزايد: أنا لا أقصد واجب أن يحب المواطن الصالح زعيمه أيّاًً كان، ولكنني أسأل تحديداً عن شخص محدد، هل تحبه؟
قال من جديد بحسم دون تردد: "نعم أحبه"، واكتفيت بهذا القدر ولم ألفت نظر يوسف، إذ يبدو أنني أعجبت بهذا النوع من العواطف النظيفة إعجاباًً خاصاً، خصوصاًً وأنا أكره عبد الناصر كرهاً خاصاًً، برغم اعترافي بفضله أحياناً، إلا أن كم الكذب والوصاية اللذان وصلاني منه وهو يطل علينا من أعلى، حافظ على كراهيتي له هو ومن ضلـَّـلَه من مستشاريه الذين لم ينتبهوا إلى ما فعلوا ويفعلون حتى الآن، نجيب محفوظ يعرف كل ذلك، لكنه قادر على مثل هذا الحب بكل هذا الصدق، رحت أبحث في نفسي عن عواطف إيجابية نحو عبد الناصر لأقتدي بشيخنا، فما وجدت إلا شفقة عليه وهو مريض في آخر أيامه....،
(انتهى النص القديم، ولم أسجل فيه تصالحي المحدود مع عبد الناصر بعد دراستي لملف حرب الاستنزاف)
تشكيلات أخرى من الحب وصلتني من نجيب محفوظ خلال تلك السنوات، قبلتُ أغلبها، وتحفظت على بعضها حين كانت تختلط عندي بجرعة مفرطة من الحرية والطيبة والسماح والديمقراطية جداً، لكنني كنت أتعلم من جميع ما أقبل وما أرفض.
ومن فرط ما بلغني من قدرته على الحب، صالحني على نفسي، وناسي، وأيامي، كما سجلت ذلك في عيد ميلاده الثاني والتسعين هكذا:(مع تحديث بسيط جداً).
صالحتَـنِي شيخي على نفسيَ حتى صرتُ أقرب ما أكون "إليه" "فينـا"،
صالحتَـنِي شيخي على ناسي، وكنت أشك في بــلهِ الجماعة يُخدعون لغير ما هـم.
صالحتَـنِي شيخي على حريتي، فجزعت أكثر أن أضيع بظلِّغيري.
صالحتَـنِي شيخي على أيامنا المرة مهما كان منها.
ذكـّرتني شيخي بأنّا قد خُـلقنا في كـبَدِْ
ما دام كرّمنا لنحملَ وعينـَا لنكونَهُ، كدْحاً إليهِ.
نشرت في الدستور بتاريخ 9-12-2009
اقرأ أيضا:
مسؤولية التحريض، ودفاع انتقائي عن الكرامة!! / كل عام ونحن، وأنتم، من جنس البشر العظيم! / سوف أنتخب البرادعى حتى لو لم يرشح نفسه!!