إلى جوار الأستاذ الرياضي، وعلى مقربة من مستشفيات جامعة الزقازيق أمر في طريقي إلى محطة القطار، ووجدت هناك فرعا للشركة المصرية للأغذية المحفوظة (قها)، وقها بلدة يمر عليها القطار في طريقه بين القاهرة والزقازيق، حيث تقع المصانع التي تنتج المربى والعصائر وغيرها من منتجات "قها" المحفوظة.
كتبت منذ فترة عن البيئة في مدونة أسميتها البحث عن قلة، ولا يكتمل الحديث عن التنمية المستدامة أو عن النهضة المتعثرة إلا بالكلام عن التصنيع، ومصر كانت دولة زراعية تنتج أفضل أقطان العالم ثم دخلت في تجربة تصنيع خلال خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي، ثم تخلت عن هذا وذاك، وصارت تعتمد حاليا على بعض السياحة، واقتصاد الخدمات والتوكيلات، ودخل قناة السويس، وتحويلات المصريين العاملين بالخارج!! الاقتصاد هو عصب الحياة بمستوياتها، وعلاقة الأغلبية الساحقة منا بفهم الشأن الاقتصادي ومعلوماتنا فيه تقترب من معرفتنا بعلوم الفضاء أو كيمياء الذرة، والمفاعلات النووية!!
وإعلامنا المجرم الفاشل يشغلنا بكل ما هو تافه ولا قيمة له ولا نفع عن أن ندرك أو نفهم مبادئ الاقتصاد، أو أن نعرف عن الصحة وأنظمة الدواء والعلاج في العالم، أو مناهج التعليم المختلفة التي تنقل البشر من مصاف الجهال إلى صدارة الأمم، أو دروب التنمية الثقافية والعقلية والإنسانية، وتزكية الأنفس، وتدريب الأرواح والعقول!!
ويندهش من يقرأ لي حين أصف من يفتقد هذه المنظومات في حياته بشكل جماعي، ولا يسعى إلى تكوين نفسه بشكل فردي، أصف أنا هؤلاء بأنهم كما يصفهم القرآن كالأنعام بل هم أضل!! وهكذا نحن ـ إلا قليلا ـ ونكاد لا ندري!!!
عندما يصبح الإنسان كائنا مغيبا لا يدري من شأن نفسه ولا ما يحتاج إلى أنظمة ومنظومات عيش، فإذا غابت هذه الضرورات فليس أقل من أن يبحث مع شركائه في هذه الكارثة عن كيفية الخروج منها، ولكن الجهل بالجهل مع الادعاء المستمر بالمعرفة يقتلنا بالحياة، ويدمر حاضرنا ومستقبلنا كما قضى على ماضينا!!! ولن يتحرك أحد ليعلمنا ما ينبغي أن نتعلمه، ولا أحد سيقدم حلولا لملايين البلهاء المنتظرين للفرج دون جهد!!!
كنت صبيا صغيرا أسمع أقاربي الكبار يتناقشون حول ما كانت تتداوله أجهزة الإعلام في السبعينات من أكاذيب وأطروحات مغلوطة عن القطاع العام وفساده، وعن الإهدار الهائل للمال العام بسبب سوء إدارته، وكان هذا الكلام، وفيه الكثير من الحقائق المشوهة يساق مقدمة لما حصل بعد ذلك مما قيل لنا أنه خصخصة بينما كان في عمق حقيقته بيعا للمصانع، ووقفا وإهدارا لمشروع التصنيع وتخريبا للاقتصاد الوطني على نحو يفوق مخططات وخيالات الأعداء لو أرداوا تدميرا!!*
إن الأمر يشبه بيت عائلة كبيرة يسئ أفرادها السكن فيه، فيسرفون في استهلاك الماء والكهرباء، وينثرون قمامتهم على السلالم وفي البلكونات، وبدلا من ترشيد هذه الأوضاع يقرر المتسلطون على أمر هذا البيت بيعه فيقبضون الثمن بينما يقرر من اشتراه أن يهدمه، أو أن يرفع أسعار الشقق جدا بعد تحسين الإدارة فيمسي على كل ساكن أن يدفع عشرة أضعاف سعر الشقة الأصلي، إذا أراد أن يعود لنفس شقته، أو أن يفقدها، ويبقى على الرصيف، وهكذا أصبحنا... (أمة على الرصيف)!!
طبعا هناك دول عربية تعيش على الاستيراد أصلا من الإبرة إلى الصاروخ، ومجتمعاتها لا تغزل الأبرة، وتستخدم الصاروخ!! مخازن السلاح في بلدان عربية كثيرة تمتلئ بأسلحة كافية لتدمير إسرائيل ثلاث مرات على الأقل، ولكنها لا تستخدم ولن تستخدم، بينما العرب يتظاهرون على أبواب السفارات المصرية حتى تفتح الإدارة المصرية الفاشلة والبائسة ثغرات في الحصار على غزة!!!
أية خيبة نعيش؟! وأية غيبوبة تلك التي فيها ننام منذ عقود؟!
إذن تخلت مصر أو تكاد عن التصنيع، وصارت تستورد أغلب ما تحتاجه، وبلع الشعب الأكاذيب والأغاليط أو المغالطات التي قدمت لتصفية المصانع والتصنيع، وما تبع ذلك من تسريح العمال، وكشف بيوت كثيرة كانت مستورة، وتغير وجه الحياة في مصر تماما، ولا أحد يحاول أو يكاد يفهم أو يشرح أو يناقش هذه المسائل المصيرية!!
ولذلك يهرف المتحمسون منا بما لا يعرفون، ويصرخون بين الحين والحين عن مقاطعة منتجات هذا البلد أو ذاك، ضد هذه الشركة متعددة الجنسيات أو تلك، ولا يمكن أن يكون للمقاطعة أي معنى ولا تأثير إلا بالإنتاج المحلي، والتصنيع المشترك العربي إن لم يكن الوطني والتبادل التجاري الإسلامي والدولي المستقل.
والجمهور العام عندنا يناقش قضايا الفراغ، ويجري وراء منافسات الكرة، ولا يسمع إلا آخر ألبومات أليسا وشيرين وعمرو دياب!! أو يدخل في معارك كشف الوجه وتغطيته، أو ما شابه!!
معلقون مثل الدواب في تروس سواقي أكل العيش التي لا ترحم، ولا ندري ـ لأننا دواب ـ أن هذه السواقي يمكن أن تدور بشكل مختلف، وأن الاقتصاد له مناهج ورؤى وتصورات، وموارد وأنظمة، وأننا بنفس المعطيات يمكن أن نعيش أفضل إذا غادرنا زرائب الماشية، وقطعان الحملان، ومرابط البغال والحمير، وفهمنا ولو قليلا من أين يمكن أن تأتي الأموال؟! وكيف يمكن إدارتها؟! وما عواقب نمط الاستهلاك السفيه الذي نعيشه إلا قليلا، وما علاقة هذا بموازين القوى مع الأعداء!!
التصنيع الوطني يعني دوران عجلة مصانع تفتح بيوتا لعمال وموظفي إدارة، ومنافذ بيع منتجات، ووقف التصنيع يعني ضخ الملايين من البشر العاطلين الذين تحولوا إلى أعمال هامشية، ومن كانت بالأمس عاملة في مصنع أو موظفة في القطاع العام، أو مدرسة في مدارس الحكومة صارت في صفوف البطالة، وبعضهن أمهات فاشلات يقبعن في بيوت تعيسة، وربما بعضهن نجح!! وكثيرات يعملن في اقتصاد الخدمات!! وبعضهن يحترفن الدعارة رسميا!!
يعني من كانت بالأمس عاملة في مصنع صارت اليوم تعمل في فندق، أو قرية سياحية، أو تخدم في البيوت، وليس عندي حكم قاطع عن أيهما أشرف أو أنسب، كما لا أدري، أو ربما أنا متأكد أن التحول لاقتصاد السوق دون نقابات تدافع عن حقوق العاملين في الشركات الخاصة، والمصانع الخاصة يؤدي إلى نوع من العبودية، ويجعل حياة هؤلاء العاملين ريشة في مهب الريح!!! وهذا كله من عمل شياطين الإنس والجن، ولا عزاء للمغفلين الغافلين عن بديهيات الدنيا والدين.
كم كنت سعيدا وفخورا، ومازلت وأنا أشتري ثم أرتدي بيجامات من إنتاج شركة المحلة للغزل والنسيج ويكاد جسدي يرفض كل نسيج صناعي، ولا يستريح إلا في الأقطان!!
وكم كنت سعيدا وأنا أقف أمام البائع لأشتري عصير قها، وحين سألته: أين أنتم؟! فقد ظننت أن الشركة قد بيعت، فقال: يبدو أنه لا توجد ميزانية للدعاية والتسويق لتنفق الشركة منها على الإعلان!! وحين سألته عن أسعار المنتجات وجدتها تنافس بشدة الإنتاج المستورد!!
ولكن الناس غافلة عن الموضوع برمته، ومن يتصدر للتوجيه والإرشاد غافل هو الآخر!!!
إن التركيز على دعم المنتج المحلي وتشجيعه لابد أن تتبعه إجراءات مراقبة جودته، والإبلاغ عن أية عيوب فيه عن طريق جمعيات حماية المستهلك المنتعشة حاليا في كشف أنواع الغش التجاري، والرقابة على السلع!! ولدينا الكثير من نقاط البدء في تحويل هذه المسارات البائسة التي نسير فيها!!
لا أنسى ما قرأته في جريدة اليسار مع بدايات الخصخصة من أن الناس ينبغي أن تدافع عن القطاع العام في معركة شوارع، أي من بيت إلى بيت لأن هذه المصانع التي بيعت كانت من لحم ودم الناس، ولأن عائد بيعها لم يذهب في سبيل تطوير أوضاعهم التي تنحدر من سيئ إلى أسوأ!!!
لكن أوضاع اليسار حينذاك كانت تنحدر هي الأخرى بشكل متزايد يخلي الساحة للقوى الإسلامية التي جاءت بعناوين أخرى بدت مثيرة لشباب في جيل العشرينات -كما كنا حينذاك- ثم كشفت لي الخبرات أننا كنا نسير بلا وعي وراء أسئلة خاطئة، وشعارات بلا رؤى، وغالبا قد حاربنا في المعارك الخطأ، بينما كانت البلاد تضيع، ويتم تفكيكها وبيعها قطعة قطعة، ومصنعا مصنع، ونحن نشتبك في قضايا تبدو لي الآن مضحكة من فرط بؤسها، ومن شر البلية ما يضحك!!! والعجيب أن نفس القضايا والمعارك الهامشية تشغل الملايين ما تزال!!!
فشل اليسار في أن يبني صفوفه بشكل يصمد في مواجهة ضربات السلطة، وفشل في أن يشرح أجندته للجمهور المغيب الذي كان مندفعا في اتجاه العناوين ذات الصبغة والديباجات والشعارات الدينية المعتادة دون أن يدرك، ودون أن ينبهه أحد أن بناء القوة الاقتصادية بتصنيع وإنتاج، وضخ عائدات هذا في تعليم بمستوى معقول، وتأسيس منظومة صحية، بل المحافظة على ما ورثنا من هذا وذاك، أو ما كنا قد بنيناه سابقا بجهد وتضحيات وعرق، وقرارات أغلبها فوقي، لكنه أنجز ولو شيئا يحتاج إلى التطوير، ويستحق الحماية بالتالي!!!
لم يكن أحد يتناول هذه القضايا المصيرية بوصفها من أسس شئون عمارة الأرض التي هي صميم رسالة وقضية ومهمة الدين، إنما اندفعت الجموع إلى الدين في معانيه الطقوسية والشكلية والتسكينية لآلام كثيرة، وجروح أصابت النفوس والأسر والشخصيات التي تعرضت لمطبات وصدمات طاحنة من بعد هزيمة الخامس من يونيو 1967.
وما زلنا نلف حول أنفسنا وندور، ونتباكى ونتشاكى، ونتلاوم، ونحزن ونولول، ونناشد أصحاب القبور أن ينقذونا مما فعلوه بنا!!
فهل موت سيحيينا؟! ومن سيوقف تسارع انهيارنا سوانا؟!!
ها قد وصل قطاري إلى مشارف القاهرة، وأنا أتذكر تعليق هذه الجامعية الشابة التي كتبت على حائطي في الفيس بوك ردا على محاولة لتحليل مشكلة ما، ورصد مكوناتها، قالت: أنا رأيي ألا نحاول ربط شيء بشيء فكلها أسباب وكلها نتائج.
تعليقها كشف لي أن الاشتباك مع فهم جذور أحوالنا ما زال بعيدا، فما بالنا بالعلاج؟!
_________________________
*(اقرأ في هذا كتاب أ.د جودة عبد الخالق الصادر عن مشروع الترجمة في المجلس الأعلى للثقافة)
واقرأ أيضًا
على باب الله: -البحث عن قلة -بمناسبة قمة المناخ/ على باب الله: مطلوب مترجمين (مشاركة)