في عصر الإعلام والمجتمع الافتراضي: خطورة خلق صور ذهنية سلبية!
هنالك مسائل عدة يبدو أننا لم نتفطن لخطورتها في سياقنا الاجتماعي والثقافي... ومن تلك المسائل أن البعض يعتقد أنه يمكنهم استخدام أي شخصية (كاركتر) في مجالات الإعلام والفن أو الدعاية والإعلان من دون الالتزام بالإطار الأخلاقي والمهني الذي يحكم ذلك الأمر... وهم يجهلون أو يتجاهلون الآثار الخطيرة التي قد تترتب على ذلك، وسوف أطرح مثالين اثنين لتوضيح تلك المسألة من خلال تحليل مقتضب لشخصيتين في المجالات السابقة: الأولى شخصية (فؤاد - الحجازي) في مسلسل (طاش)، والثانية شخصية (عزيّز - القصيمي) في مسلسل (أم الحالة) بجانب استخدامها في دعايات تجارية لبعض الشركات. وبالمناسبة فلا بد من التذكير بأننا قد نجد -كمشاهدين- بعض المتعة في مشاهدة تلك الشخصيات، وقد نضحك كثيراً أو قليلاً، ولكن هذا لا يعني أنها بريئة أو مستعلية على النقد العلمي في ضوء نتائج الدراسات العلمية والإطار الأخلاقي المهني.
تلك الشخصيات -وأمثالها- من شأنها خلق (صور ذهنية) عند البعض تجاه الآخرين، وهو ما يُعرف علمياً ب(التنميط) (أو القولبة) Stereotyping، والتنميط يحدث حينما تُصدر حُكماً ما على شخص أو أشخاص بسبب انتمائهم إلى جماعة معينة (كانتمائهم إلى منطقة - مدينة - عرق - فئة اجتماعية...)، والتنميط في حقيقته (صور ذهنية معممّة) نختزنها في ذاكرتنا حول الآخرين، ونقوم بإنزالها وتشغيلها في جهازنا المعرفي في الكثير من المواقف التي نتفاعل فيها مع فرد أو أفراد ينتمون إلى جماعة ما. ومن المؤكد أن تلك الصور الذهنية التي نختزنها حيال الآخرين تؤثر على طريقة معالجتنا للمعلومات حول الأشخاص والجماعات بشكل يقودنا إلى إصدار أحكام معمّمة، وهنا تكمن الخطورة البالغة ولاسيما إن كانت تلك التعميمات سلبية، وهو الغالب، ليس ذلك فحسب؛ بل نجد -وهو الأخطر- أن التنميط يمنحنا نوعاً من (المشروعية السيكولوجية) لممارسة (خطيئة التعصب) تجاه الجماعات التي نحمل حيالها صوراً سلبية منمّطة، وتزداد الحالة خطورة حين نتذكر الحقيقة العلمية التي تفيد بأنه من السهل تكوين الصور المنمطة السلبية في عقولنا، إلا أنه يصعب إزالتها منها في كثير من الأحيان!!
والأمر السيئ حقاً أن تلك المسائل في مجتمعنا السعودي لم تحظ بنقد كافٍ من قِبل المتخصصين في العلوم الاجتماعية والإنسانية؛ ما يجعلها بعيدة عن التشخيص المنهجي والتحليل النقدي، ولهذا فنحن لا نتوافر على قدرة كافية لفهمها وتحديد أسبابها وكيفية حدوثها فضلاً عن التعرُّف على آثارها وسبل علاجها. نحن إزاء ممارسات إعلامية أو فنية أو تجارية توجِدُ (البنية التحتيةَ) لصور ذهنية معمّمة تجاه جماعات معينة، ولو عدنا إلى شخصية (فؤاد - الحجازي) لوجدنا أنها تعكس صوراً سلبية تتمثل في السذاجة وضعف القدرة على التواصل مع الآخرين (بلا في شكلك)... وفي اتجاه مشابه نجد أن شخصية (عزيّز - القصيمي) تغرس صوراً سلبية تتجسد في البخل والأنانية (أنا وشكاري... أنا فاتحن جمعية عزيز الخيرية)... وقد أوردت بعض الصحف أن الفنان أسعد الزهراني -الذي يقوم بأداء دور عزيّز- يطمح إلى إعداد فيلم عن شخصية عزيّز، وأنه يبحث عن ممول؛ نظراً إلى النجاح الكبير -كما يقول- الذي حققته تلك الشخصية، ومن جهة أخرى قرأت أن الفنان ناصر القصبي يدافع عن شخصية (فؤاد)، ويؤكد أنها بعيدة عن (العنصرية)... وكأن الصور الذهنية السلبية لن تتشكل في العقول من جراء مثل تلك (الطموحات الفنية) أو (النوايا الطيبة) التي يحملها الفنانون -وأنا لا أشكك أبداً في نواياهم- بخصوص مثل تلك الشخصيات ونظرتهم الفنية (البحتة) لها.
وما سبق كله يجعلنا نقرُّ بوجود غياب للوعي بكيفية تشكّل الصور الذهنية النمطية في عقول الناس؛ فنتائج الأبحاث العلمية تؤكد أن تكريس الشخصية لبعض الصفات السلبية وتكرر عرضها من شأنه الإسهام -ولو بشكل غير مباشر ولو بعد حين- في (إيجاد) أو (تعزيز) أو (زيادة تعميم) للصور الذهنية السلبية عن تلك الجماعة التي تنتمي إليها تلك الشخصية؛ ولاسيما أنها قد تجد ما يعضدها من الصور السلبية الأخرى المكتنزة في رؤوس (الأجداد) و(الآباء) و(الأصدقاء) و(المعلمين)، التي ينقلونها بدورهم إلى الآخرين على شكل (نكت) و(قصص) و(شعر) و(أمثال)؛ خاصة أننا بتنا (مجتمعاً افتراضياً) Virtual Society، والمجتمع الافتراضي يمتلك تقنية عالية وقدرة عالية على إيجاد وسائط سريعة وفعالة في نقل المفاهيم والمضامين والدلالات والصور الذهنية في وقت قصير ولشرائح عريضة (رسائل الهاتف المحمول - البريد الإلكتروني...). وتتأكد الخطورة إن وضعنا أمام أعيننا حقيقة أن الأطفال يطورون (صوراً ذهنية منمطة) في وقت مبكر من طفولتهم؛ خاصة إذا كانت تلك الطفولة (محفوفة) بشخصيات متعصبة أو ميالة إلى التنميط والمبالغة في التعميم!
إذن نحن نشدد على أن الممارسة الفنية أو الإعلامية أو الإعلانية (التجارية) يجب أن تتم وفق إطار أخلاقي مهني، يتجنب إشكالية تكريس الصور الذهنية المنمطة، وفي حال وجود حاجة لتمثيل شخصية (كاركتر) بشكل دائم أو متكرر أي بسمات ثابتة؛ فإنه يجب في تلك الحالات أن نتجنب (اللهجات المناطقية) Regional Dialect، ويمكن تطبيق ذلك بالاعتماد على شخصية ذات لهجة وطنية عامة (أو لهجة مهجّنة)، ونقصد بها اللهجة التي لا يمكن عزوها بشكل مباشر وبطريقة شبه تلقائية إلى منطقة محددة أو مدينة معينة؛ تفادياً لرسم صور ذهنية سلبية عن تلك المنطقة أو المدينة، وهنا نحقق المتطلبات الفنية ونلتزم بالأطر الأخلاقية والمهنية في الوقت ذاته... وهنالك مسائل أخرى في إحداث آثار مشابهة في خلق أو تكريس صور ذهنية سلبية معممة ومنها التوسع في استخدام رسائل الهاتف المحمول وضعف الالتزام بالبُعد القيمي في تبادل الرسائل والنكت ونحوها... وأختم بالقول بأنه: يتوجب علينا أن نكون أكثر وعياً، بل أكثر حساسية ثقافية واجتماعية لنحافظ على إنسانية الإنسان وكرامته من أن تُخدش ولو بصور ذهنية تتقلب في رؤوسنا فضلاً عن أذيتهم قولاً أو فعلاً!
واقرأ أيضاً:
الصدق القيمي-الصدق المدني.. مفتاح نهضوي افتقدناه..! / ضرورة التأسيس المعنوي للكيان الوطني!