أقول لأمي: يغرقنا الجهل وتحاصرنا السوقية والغوغائية، ولا ينجو منها إلا القليل!!
أقول لها: كنا طلابا في الجامعة، ولنا زملاء كانوا مخلصين ومتحمسين، نحسبهم كذلك، وكان الأمن يحرضهم ضد الزملاء من الإخوان، ويقولون لهؤلاء المتحمسين: كيف تسكتون لهم، وهم ينتشرون ويكسبون أرضا؟! إنشطوا وواجهوا أفكارهم، وكان هؤلاء الزملاء ينشطون، وكانوا يتحدون شباب الإخوان قائلين: أنتم أشد على الإسلام من أعدائه، وكانوا يقولون لهم: أنتم منافقون، ومبتدعون..و..و..إلخ، وكانوا يضربونهم أحيانا في صدامات دامية!!
كانوا لا يرون إلا رأيا واحدا، ولا يقرأون إلا لمشايخ قادوهم إلى حيث أفضوا: مشردين في الأرض، أو معتقلين في السجون، أو من قضى منهم نحبه بتركه للمرض يفتك به، أو تحت التعذيب، أو سافر إلى أفغانستان!!
كانوا من أفضل الشباب، وبعضهم على تقوى وصلاح، كانوا يحبون الله ورسوله، ويحبون الدين، وكانت لهم أسر تحبهم وتحرص على مستقبلهم، وكانت لهم أحلام، ودخلوا في محنة طويلة لعب فيها الاستبداد وانتهاك القانون وأبسط معاني الإنسانية دور البطولة ـ إن كان في الأمر بطولة ـ وصاروا جرحى النفوس بعد أن قوبلت اجتهاداتهم الخاطئة المتعجلة، وعقولهم الضيقة، واندفاعهم الأرعن بآلة بوليسية لا ترحم، ولا تلتزم بشرع، ولا عقل، ولا ضوابط قانون، ولا حقوق إنسان!!
استسهلوا واعتمدوا على من توسموا فيهم العلم والصلاح، وانقادوا لكلام استراحت له نفوسهم وصدروهم الضيقة مما يرون من المنكرات والهزائم والعار، ولم يدققوا فيما يسمعون، لا في تشخيص علل الأمة ولا في علاجها، لا في خطة العمل، ولا في خطاب المواجهة، واضطربت بهم المقاييس والمعايير، وأغلقوا آذانهم دون أي كلام مختلف، أو رأي مخالف، وكانت النتيجة محنة لم تزل آثارها، أدعو الله لهم ولي بالعافية والتعافي، والستر في الدنيا والآخرة، وحسن الخاتمة.
ولما قالوا: إنا كنا خاطئين... قالوها في كتب ومقالات، وحوارات ومراجعات، قالها قادتهم بعد ربع قرن من السجن، وبعد تغريبات في أقطار الأرض تشيلهم بلاد، وتحطهم بلاد، وحين قالوها أخشى أن أحدا لم يفهم، بل لم يستمع أصلا، لأنني أرى نفس الاستهبال والاستسهال يكاد يكون قاعدة عامة، وأرى نفس الجهل والاندفاع بنفس الرعونة، وأرى الانغلاق الفكري، والضحالة والسطحية في معالجة شئون الدنيا والدين، وأفواج وراء أفواج من شباب حدثاء الأسنان يتلون القرآن ولا يتجاوز تراقيهم، ويمرقون من الدين كما يمرق السهم من القوس، ويحسبون أنهم على الصواب المطلق وحدهم، ويظنون أن الصلاح الظاهر، وطيب الكلام، وحلو الخطاب الموشى بالآية والحديث، وقال الله، وقال الرسول هي منتهى عدة العلم، وغاية الفهم، وذخيرة السير في دروب الدنيا المركبة التي نعيشها!! رؤى تبسيطية، وإجابات متواضعة.
نفس العقل البسيط، ونفس الخطاب، وتكرار نفس الأخطاء تقريبا مع تغيير الوجوه، وأراني وأراهم وأرانا مثل سيزيف وصخرته، نكرر العنت، ونكرر السقوط!! وزاد الطين بلة أنه بدلا من كتب ونشرات ومجلات متواضعة الطباعة، صار لهذا النهج قنوات فضائية، وبرامج حوارية!!
قلت لأمي: ماذا أفعل، وماذا أقول؟!
وأنا أرى مصارع القوم أمام عيوني، وأرى ذيوع ما تعلمت أنه مهلك وخطأ وخطيئة، وما يتأكد عندي أنه مرعب وقاتل ومبدد؟! وأعرف كيف تتم صناعة هذا الحضيض من البؤس الذي يصل بنا إلى جحيم بلا قعر، والناس تعتقد أنها تسير إلى الجنة، وتأخذهم روح الجماعة، يؤنسهم دفء الجماعة، وغوغائية الجماعة بعيدا عن التبيُّن والتمحيص والتدقيق، وبعيدا عن المسئولية الفردية لكل شخص عما يسمع، وعما يقول، وعما يفعل، وبدلا من قيادة القرآن، وفقه القرآن، ودقة القرآن، وحلاوة القرآن، ونصاعة القرآن، بدلا من بذل بعض الجهد اللازم للفهم عن الله سبحانه، والشهادة على خلقه مما يستلزم وعيا وفقها وجهدا، بدلا من هذا تشيع فينا أخلاق السوق، فنكذب وندلس ونعمم ونراوغ ونرمي بالباطل، ونندفع وراء التسويق الشاطر لبضاعة متواضعة جدا، وليس وراء البضاعة الجيدة!! والكل واقع في الاستسهال والتسطيح، غارق في الغيبوبة إلا نادرا.
بدلا من بذل الجهد لفهم القرآن، وهو بلسان عربي مبين، والفهم عن الحبيب صلى الله عليه وسلم، وهو صاحب جوامع الكلم، وبدلا عن بذل الجهد بالغوص في التاريخ، وسنن الله في كونه لنعرف كيف تحرك هذا الدين، وكيف انتصر أتباعه حين انتصروا، وكيف انهزموا وانكسروا وتراجعوا وتخلفوا عن الركبان، بدلا من هذا أراني، وأراهم يا أمي يسيرون وراء الناعقين الواثقين بكلام معسول، وأرى المشهد البائي يتكرر بحذافيره يا أمي، وأندهش: هل نحن نقرأ هذا القرآن نفسه الذي بين دفتيِّ المصحف؟!! وهل نفقه شيئا مما نقرأه؟! أي دين وأي تدين ذلك الذي تزعمه الجموع؟! وأية جنة تلك التي نعتقد أننا سائرون إليها غير "جنة العبيط"، كما في عنوان رواية لتوفيق الحكيم، كما أذكر!!
دبريني يا حبيبتي: ماذا أقول؟! وماذا أفعل؟! وماذا عساي أن أصنع، وقد تعلمت منك أن أسير على الحق، وأقول الحق، وليكن بعد ذلك ما يكون؟!! حتى صارت طبيعة لا تضحية فيها!!
وأراني حين أقول الحق ـ كما تعلمته وأعتقده ـ أبدو وحيدا، وأسير وحيدا، وأنا في درب والناس في درب، وتقول أمي: هكذا أشعر أيضا، كثيرا ما أجدني أسلك غير ما يسلك الناس!!!
أفضفض إلى أمي على طعام الغذاء، وأقول لها: كله بسببك، وأبتسم!! وأتبين يوما بعد يوم أن أغوار النفس عميقة وقديمة.
تشفق على أمي، وتقول: ماذا عساك أن تفعل، وأنت قطرة في بحر... واحد وسط ملايين، وكلهم راضٍ بما يعتقد أنه الصواب، وأنه الأخلاق!!
ومن بديهيات الأخلاق أن يعبر كل واحد عن وجهة نظره بأدب دون أن يجرح الآخرين!! وأن يحترم الآخرين!!
أقول لها: هكذا علمتني يا أمي، لكن الشارع ليس هكذا، والناس ليست هكذا، وأخلاق المسلمين الجدد، مسلمو هذا الزمان، ليست هكذا، إنما الحياة والصدور ضيقة، والعقول سفيهة ضعيفة، والمعرفة غائبة، والتقوى نادرة، والله أعلم!!
تقول: سبقك أخوك بالهجرة، وربما نلحق به!!
ربما لم تعد هذه الأرض لنا، ربما ليس لنا فيها وسط هؤلاء مكان!!
أحضنها، وأقبل رأسها، وأطلب منها الدعاء!!
واقرأ أيضًا:
على باب الله: مطلوب مترجمين (مشاركة)/ على باب الله: الأمة هي الحل: اكتشف بنفسك، واتعب لتفهم