تعرفت في مطلع التسعينات على شخص صار صديقا مقربا لي فترة من الزمن، وكان مما شجعني عليه، وأيقظه بداخلي أكثر، هو ذلك الشغف بالآداب والفنون، وبخاصة السينما.
معه عرفت الطريق إلى حضور مهرجان القاهرة السينمائي الدولي كل عام لأحضر أكثر من خمسة عشر دورة لهذا المهرجان، وأتابع أفلاما من كل أركان الدنيا، وتتربى عندي ذائقة مشاهدة لا بأس بها، ولأصبح تدريجيا شخصية معروفة في التعقيب على الأفلام ومناقشتها مع مبدعيها حين يأتون مصاحبين لأعمالهم ضيوفا على المهرجان.
أنا تربيت أصلا على عدم الاهتمام بالسينما لأنها مجرد تضييع وقت، وقلة أدب غالبا، ورغم أن الأفلام المصرية كانت الترفيه الوحيد أو الأهم المتاح لأجيالنا في طفولتنا، فلا أذكر أنني ذهبت لمشاهدة فيلم في قاعة سينما إلا نادرا، في مقابل عشرات الأفلام التي كنت أشاهدها في التلفزيون، ثم جاءت سنوات الاقتراب من أصحاب الالتزام الديني في الثمانينات لتؤكد العزلة والانعزال عن الفنون والآداب بوصفها قلة أدب، ومخالفات شرعية، وفي أحسن الأحوال تضييع وقت، وما كان لي أن أقبل ما يعتبره البعض من الثوابت إلا أن أختبرها بنفسي، وهكذا فهمت التزامي وإيماني ووفائي تجاه ما أعتقد، وهكذا أمارس مسئوليتي أمام الله سبحانه، وأمام الناس الذين يقتربون مني ويسألونني، ويثقون بي!!
وتدريجيا ومع دخولي إلى عالم السينما انقشع الضباب عن الحقائق لأتبين تفاصيل الخداع والبؤس الذي تعيشه أمتنا المسكينة سائرة كالقطيع وراء من تعتقد أنهم يهدونها سواء السبيل فإذا بهم يقودونها إلى سوء السبيل لا سواه!!!
طبعا نسمع من يتكلم عن السينما وكأنها شيء مقدس، وأن المبدع هو مثل إله أو نصف إله يخلق ويبتكر من خياله شيئا لا يأتيه الباطل، ولعل هذا خطاب دفاعي في مواجهة جماعة "السينما محض لغو"، ولكن على كل حال اكتشفت أن كلام الفريقين مجرد كذبة ـ ولو دون وعي ـ وأن وضع المسألة ليس هكذا أبدا، وأن السينما عالم جميل ومفيد وممتع على مستويات عدة منها التعبير والتوثيق والتأريخ والتواصل الإنساني والثقافي، وحتى النفسي بين الإنسان وذاته!!
وأجدني مضطرا للقول بأنني أشير إلى، وأتحدث عن السينما الجيدة، ولا أعني بها ما يسميه البعض السينما النظيفة أخلاقيا، ولكن أعني السينما جيدة الصنع، وليس لدينا منها الكثير للأسف، في المنطقة العربية!!
ومن يشاهد السينما بانتظام وينفتح على مدارس ورؤى متنوعة سيعرف ويفهم معنى كلامي حين يرى ويدرك معنى أن تبدع أعمالا متعوبا فيها بحثا وجهدا في التنفيذ والأداء، مقابل أطباق الكشري، والمقالات الخطابية الركيكة المصورة المعروضة على شاشتنا نحسبها أفلاما، ونحاور صانعيها بوصفهم مبدعين لسينما، بينما هم متواضعين ومبتدئين، إلا فيما ندر!!!
والأمر لا يتعلق بتاتا بما نعتقده من أوهام حجم الإنتاج، وتكاليف الصناعة، إنما يتعلق أساسا بفقر الخيال وامتلاك الموهبة والأدوات، ومن ناحية أخرى موقف الحرية في السياسة والمجتمع وتعاطيه أو تعامله مع السينما، ثم تأتي مسألة الإمكانيات والميزانيات... آخر شيء!!
عندي كلام كثير في هذا الملف، ولكنني أكتب اليوم عن تفصيلة حميمة لا أريد أن أبددها وسط ضوضاء المعاني، ولو كانت مهمة!! ولعلي إن لمست اهتماما منكم أن أعود لمعالجة هذا الموضوع في مدونات أو حلقات برنامجي الإذاعي "فش غلك"، حتى يفتح الله لنا نوافذَ أوسع للتواصل، ولتغطية ومعالجة القضايا!!
منذ مطلع التسعينات، ومن أول فيلم شاهدته للمبدع الإيطالي "فيلليني" أدركت أن هذا الرجل المختلف سينمائيا يستحق المتابعة، وحين كان ما يزال على قيد الحياة كنت أتلمس أخباره، وأتابع جديده، وحين أسمع عن عرض هنا أو هنالك أجتهد في حضوره، وبذلت في هذا ما أتيح من جهد مع أقل قدر من التعارض مع مسئولياتي الأخرى! واليوم أقول بوضوح وبثقة أن الطريقة المتميزة التي يصنع بها فيلليني أفلامه منذ نقطة الحلم، وحتى نقطة التنفيذ والعرض تحركني نفسيا وروحيا وعاطفيا بشدة!! وما كان لديه من تساؤلات ونقاط حيرة وتحديات هي مما يجدر بنا أن نعرفه لأننا نعيشه، ولكن بدون وعي!!
أزيد أيضا أن إيطاليا دائما قد أعطتنا سينما مختلفة، ولكن غرقنا في السينما الأمريكية والمحلية أضاع علينا فرصة التواصل مع هذا البلد المتوسطي شديد الشبه بنا من بعض الجوانب، وفي غمرة الضوضاء وصخب الفوضى والموت الذي يحيط بنا ونعيشه لم ندرك الاختلاف بين الإيطالية وغيرها، رغم أنه واضح جدا من طريقة المعالجة، واختيار الموضوعات، وحتى سحنة النجمات من "صوفيا لورين" إلى "مونيكا بلوتشي"!!
إيطاليا نفسها كمكان وأشخاص تبدو حالة مختلفة عن وسط وشمال أوربا، وحين تكلمت مع من قابلت، وبخاصة النساء، لمست اختلافا في هذا البلد الذي هو معقل الكاثوليكية، ولا يمكن فهمه دون الإلمام بأعماق الجدل والتفاعل والاحتكاك والصدام والتأثير المتواصل نتيجة وجود هذا المكون هناك بتركيز أكبر من أي بلد آخر، عدا بعض بلدان أمريكا اللاتينية، وهي أيضا تأتي على نحو مختلف عما هو في إيطاليا!!
مخزون هائل بداخلي عن إيطاليا والسينما وفيلليني انفجر كله واختلط، وأنا أشاهد فيلم "تسعة" للمخرج الأمريكي روب مارشال، وهو فيلمه الأحدث، ويأتي مثل إعادة إنتاج لأحد أهم أفلام فيلليني "ثمانية ونصف"!!
جلست مشدوها في نهاية صالة العرض ألاحق الصور والكلمات وتتداعى بداخلي المعاني والذكريات، وتنفتح الملفات في عقلي، وتتجمع المشاعر ثم تتفرق ثم تعود، وهكذا!!
أعادني الفيلم ـ جيد الحبكة والصناعة ـ إلى عوالم بداخلي: أحلام فيلليني، الدين الإنسان والكنيسة، المرأة في حياة الرجل، والرجل في حياة المرأة، الطفولة والإبداع، الاكتشاف والمغامرة، روما وشوارعها، العجز والإلهام، الزواج والخيانة، الإغواء والقسوة، حالات النفس الحية، والتباسات الفهم والتواصل الإنساني، حضور الأم، وتأثير العشيقة المندفعة، ودموع الزوجة الحائرة الباكية بين كينونة المبدع الرائع، وما تراه من عدم إخلاصه كزوج!
فيلم أكثر من رائع يستخدم الصورة والموسيقى، والكلمة الشاعرية النافذة ليتسلل كما حصل معي فيطلق الأفكار، والمشاعر والأحاسيس والتحريض على أن تحب الحياة والناس والسينما، وتبحث عن الأفضل لك، ولمن تحب.
الفيلم غنائي استعراضي، لكن وصفه هكذا فقط كان مستفزا لي حين سمعت أحدهم أو بعضهم يقول عنه هكذا قبل العرض بأسبوع، وتذكرت كم أن الاختصار مخل، وكم أن حكمنا على الأشياء يأتي متعجلا غالبا، وبالتالي غير دقيق!!
إن الذين حرموا أنفسهم من السينما وانقادوا لما يقال عنها من كلام سخيف وسقيم إنما حرموا أنفسهم من خير ومتعة وإفادة، فإن قيل أنه تشوبها شوائب، فلا أدري ما الذي في الحياة الدنيا لا تشوبه الشوائب؟! والذين يرون فيها مجرد فتنة شيطان أراهم من فرط الخواء قد أسلموا أنفسهم لشياطين أعتى تتلاعب بهم، وهم عنا غافلون!!!
ويتبع >>>>> : فيلليني.... مشاركة
واقرأ أيضًا
على باب الله: الأمة هي الحل: اكتشف بنفسك، واتعب لتفهم / على باب الله: قوة علم النفس: تحية محب