الناس تحسب أن الإبداع يقتصر على التشكيل الفني أو الشعر أو الرواية، هذا غير صحيح، الإبداع يجري في كل مجال، الإبداع في السياسة أخطر وأعقد، فما بالك بالإبداع في الحرب؟ الإبداع في السياسة والحرب مسئوليته أكبر، ومخاطره أفدح، وعائده أروع إيجابا وسلبا.
الإسكندر الأكبر، ونيرون، ونابليون بونابرت، كانوا مبدعين في السياسة والحرب، ولا داعي لذكر فضل إبداعهم، ولا ضحاياه، بما في ذلك أنفسهم.
عبد الناصر أبدع وهو يؤمم القناة، وهو يبني السد، وهو يعلن قرارات تغيير المجتمع، وهو يحارب في اليمن، وفي الوحدة مع سوريا، وفي هزيمة 1967، وفي حرب الاستنزاف، وهو يقبل مبادرة روجرز، وهو يموت.
السادات أبدع ما يسمى ثورة التصحيح، وهو يطرد الخبراء السوفييت، وهو يعبر بحرب أكتوبر، وهو يزور الكنيست، وهو يوقع معاهدة السلام، وهو يصدر قرارات اعتقالات سبتمبر، وهو ينتحر بأيديهم.
تعريف الإبداع في السياسة والحرب يتفق مع تعريف أي إبداع :هو عمل غير مسبوق، وغير متوقع، يعمله عادة فرد في لحظات إلهام (سياسي)، متجاوزا الأساليب التقليدية، وبأقل قدر من المشورة، فهو من صفات الحاكم الفرد أكثر منه عملية ديمقراطية محسوبة كما يشاع هذه الأيام.
ما رأيكم بعد هذه المقدمة الصعبة، أن ننظر في أحوالنا اليوم، ونحن نتحسس طريقنا إلى حل جذري، وربما نحمد الله أن انتهى عصر الرؤساء المبدعين، أو ربما نترحم عليهم، أين نحن الآن والأعداء يستدرجوننا إلى حلول جزئية، وتأجيل خبيث، ورشاوي تسكينية، رسمية وشعبية.
إذا أردنا أن ننطلق إلى إفاقة آن أوانها، فيجدر بنا أن نتساءل أولا عن القاعدة التي ننطلق منها، أهي حالة سلم أم حالة حرب؟ قبل أكتوبر وصفوا حالتنا بأنها حالة "اللا سلم" و"اللا حرب"، فما حالتنا الآن؟ سلم أم حرب؟ سلم مع من؟ وحرب مع من؟
حالة السلم تستدعي إنفاقا أقل على آلة الحرب، وتكريسا أكبر على تنمية مواردنا ومواهبنا وقدراتنا وإبداعاتنا، وتعاونا حقيقيا مع كل من يهمه أمرنا بقدر ما يهمنا أمره. حالة الحرب فيها استنفار شامل، وإقدام مغامر، وتضحيات جسيمة، تستعمل كل ما امتلأنا به في حالة السلم. السلام والحرب طوران متناوبان مثل نبض القلب، مثل كل دورات الإيقاع الحيوي، إن قوة نبضة القلب تتناسب طرديا مع حجم القلب أثناء استرخائه وهو يمتلئ بالدم (حالة السلم) ثم ينقبض ليدفعه (حالة الحرب)، فالسلم تمهيد للحرب، والحرب الناجحة هي ناتج السلم الإيجابي.
أين نحن الآن بالضبط؟ مع من ضد من؟ لا يوجد سلام يستحق أن يسمى سلاما نمتلئ أثنائه بما ينبغي كما ينبغي، حتى إذا نفخ في نوبة الحرب اندفعت النبضة بما امتلأنا به إقداما واقتحاما. حين استوعبتُ حرب الاستنزاف مؤخرا، اعتبرت أنها هي السلام الإيجابي الذي أعنيه، هي التي ملأت جنودنا بما ينبغي، فلما جاءت نبضة أكتوبر اندفعوا إلى هدفهم وحققوا ما حققوا.
الآن، أين نحن بالضبط؟ هل هذا سلام إيجابي ذلك الذي يتدهور فيه التعليم، والإبداع، والحراك السياسي، والحضور القومي، والبحث العلمي، وبقية المجالات المحظور التحدث فيها، يا ترى هل نحن في حالة حرب دون أن ندري، فانشغلنا عن ما يجعل السلام سلاما استعدادا وإعدادا وبناء وامتلاء؟ ربما فعلا نحن مشغولون عن مثل هذا السلام الإيجابي بحرب ما، جنودنا على أتم الاستعداد، والحرب حولنا متجددة بين ظَلَمة مفترسين، ومقاومين مصارعين حتى الاستشهاد، إذن فهي الحرب على حدودنا، وفي وعينا، فهل نحن مشتركون أم متفرجون أم منتظرون؟ ثم من هو العدو تحديدا؟ عدونا نحن؟ حاولوا خداعنا أن إسرائيل لم تعد هي العدو الأول، فلا بد من خلق أعداء باستمرار، نتصور من مواجهتهم أننا في حالة حرب، فننشغل عن السلم الإيجابي، الحروب المفروضة علينا لا نحن اخترنا فيها عدونا، ولا اخترنا توقيتها، ولا اخترنا أسلحتها، الحروب التي وجهونا إليها الآن مع الزعم أننا في منتهى السلام، هي حرب ضد إيران، وضد الفرس، وضد حماس، وضد حزب الله، كل هذه حروب نُجر إليها ليل نهار لنظل في حالة حرب بلا حرب، وبالتالي سلام بلا سلام.
ثم ظهرت الحروب بالإزاحة، فوجدنا أنفسنا في حرب ضد الجزائر في مباراة كرة قدم، وضد الخنازير (وليس فقط أنفلونزا الخنازير)، وأخيرا وليس آخرا، وجدنا حربا أخبث ضد بعضنا البعض، ضد الأقباط وضد المسلمين وضد أهل النوبة...إلخ
إذن فنحن في حالة سلام بلا بناء أو امتلاء، وحروب بلا قتال ولا فروسية.
مرة أخرى: هل نحن في حاجة إلى إبداع جديد ينقذنا من هذه الحالة؟
نحمد الله تعالى أن حكامنا الآن ليسوا مبدعين حفظهم الله.
(برجاء مراجعة أول المقال).
نشرت في الدستور بتاريخ 20 -1-2010
اقرأ أيضا:
المشاركة في الحلول التسكينية،.....يميّع المسائل بلا حل!! / اقتراح: تأميم تجارة السلاح عبر الحدود!! / هل ثبت أنه المسيخ الدجال؟؟ يا رب سترك...!!