لا أدري ما هو نوع التأثر الذي بثته عينا جاري الهندي الشبه دامعتين، فقد تفرست عيناي في نفس الملامح مرتين، الأولى حين جاءني في بداية الشهر الماضي حاملاً ثلاثمائة درهم، مدها إلي وأنا جالس إلى مكتبي احتسي كأساً من مشروب المتة الذي تولع به السوريون كثيراً، حيث أشربه كل يوم قبل الغروب، على الرغم من عدم مناسبة هذا المشروب للمكاتب وإنما لجلسات الأصدقاء الخاصة وربما الأحبة ولكني أدمنته نظراً لإمكانية شربه بدون سكر ويساعدني على التركيز أثناء القراءة أو الكتابة..
المهم أن جاري الهندي مد إلي ثلاثمائة درهم وقال هذا جزء من الدين، سأعطيك مائتين في الشهر القادم.. في هذه اللحظة وأنا امتص جرعة عميقة من المتة استقرت عيناي بدون إرادة مني على الإطار الدامع كهالة حول عينيه، وتذكرت أن الدين مستحق منذ أكثر من شهر ولكني لم أشأ أن أطالبه به نظراً لصغر المبلغ ولإحساسي أنه لو لم يكن بحاجة إليه لأتى به.. قلت له إن كنت تحتاج المبلغ أبقه معك إلى الشهر القادم، فقال لي بلهجة خليطه "الله يخليك شكراً، الهمد لله.." وتزايدت هالة الدموع في إطار عينيه وتحولت إلى دمع حقيقي، قائلا بنبرة متصدعة، "والله في بتشة (أطفال) كتير، مصروف، ألله يخليك شكراً.." قلت له لا بأس ليكن في الشهر القادم أو الذي يليه..
.. وفي بداية هذه الشهر جاءني ومد يده إلي هذه المرة بالمبلغ كاملاً.. ولكن هالة الدمع في إطار عينيه مازالت كما هي، وهي ربما قابلة للاتساع لتصبح دمعاً، قلت له لا بأس أبقها إلى الشهر القادم، فرد أيضاً بلهجة خليطه متصدعة "ما في مشكل إن شاء الله أنا لما أحتاج فلوس أجي مرة تانية عندك.." وأصر بشكل لا يقبل الجدل على أن آخذ ديني..
يعمل جاري في مؤسسة صغيرة لتحلية المياه بجوار مكتبي، وعلى الرغم من هيكله الضخم وملامحه الخشنة، إلا أنه يثير في كثيراً من الشفقة بسبب ملامحه البائسة التي توحي بالاكتئاب من وضع صعب لا يتغير، واغتراب لا يعرف متى ينتهي.. وزادت سمرته الداكنة بسبب وقوفه شبه الدائم في الشمس لملء أوعية المياه للمشترين منظره كآبة.. ببساطة يمكن للمرء أن يحزن لمجرد أن يعرف أن جاري الهندي لم ير عائلته منذ خمس سنوات، وهو يراكم أجازاته السنوية لمدة ست سنوات ليأخذ إجازة طويلة مدتها ستة أشهر يقضيها مع عائلته وأولاده.. ثم يعود ليغترب ستة أعوام أخرى.. وفي هذه السنوات أصيب جاري بالسكر، وبدايات الضغط وزوجته هناك أيضاً تعاني من ارتفاع الضغط، وللعجب فإننا نحن أصحاب المكاتب والمحلات الأربعة المطلة على الشارع، أنا وجاري الهندي وجاري الحلاق الباكستاني والشاب السوري الآخر الذي لم يتجاوز السابعة والعشرين ويعمل في محل لصيانة الكمبيوتر، جميعنا نعاني من مرض السكر، فلله در الاغتراب.
واقرأ أيضاً:
داونلود مشاركة / عينان زرقاوان / أحزان يعقوب.. وقميص أحمد