أغلقت التليفزيون بامتعاض وأسى وغضب معاً وهي تقول: "لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم"، كل هذا الخراب، كل هذا الموت، كل هذه الأشلاء لماذا؟ لماذا ماذا أم ماذا؟ حكمته، امتلأ رأسها فجأة بمزيج من النار، والغثيان والكفر والاستغفار، جرت إلى حاسوبها وكأنه ناداها بشفرة خاصة غير كلمة المرور، فتحت بريدها؟ ما هذا؟ هل يمكن أن يكون بفعل فاعل؟ البترول، الذهب، استعمال المساعدات الإنسانية، للاحتلال، تفكيرها تآمري؟! أحسن، هي لا ترفضه، فكم أضاء لها الطريق.
سمعتْ صوتَه يبكي في الحجرة الأخرى ذهبت إليه مسرعة وخطر لها خاطر غريب: أن يكون لبن ثديها قد تلوث بما في رأسها، ضَمّتَه إلى صدرها وهي لا تصدق أنه ابنها، رضع الرضعة، وتجشأ، وابتسم، ونام، ابتسمت الأم لابتسامته وهو نائم وهي واثقة أنه رأى ابتسامتها وهو مغمض العينين.
بمجرد أن وضعته على الفراش بكى وهو يتفزز، مع أنه كان قد ارتوى من رحيق ثديها، حتى نام من الشبع أثناء الرضاعة، وكان جافا، لم تفهم الأم بكاءه وهدهدته وهو مازال على فراشه، لعل النقلة هي التي قلقته، تحسست ثيابه الداخلية لعله ابتل لكنه لا يزال جافا كما كان على صدرها.
كان بكاء الرضيع غريبا عن ما اعتادته، فيه صراخ وعويل معا، لكن شفتاه انفرجتا فجأة وهدأ وكأنه عاد يضحك، وهو مازال مغمض العينين، فاعتبرت أمه أن بكاءه كان جزءًا من حلم لم يوقظه، أحكمت غطاءه وقبلته من بعيد خشية أن يستيقظ، واستدارت لتخرج متسحبة.
ما كادت تمسك بمقبض باب الحجرة حتى سمعت صوت الطفل يتلو "إِذَا زُلْزِلَتْ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا" فالتفتت غير مصدقة، لكنه أكمل "وأخرجت الأرض أثقالها" فتأكدت من أن الصوت هو صوت رضيعها، فزعت وظنت بنفسها الظنون، عادت تقترب من الطفل، فوجدته مازال نائما، لكن سائلا يحيط بالوسادة حول رأسه فظنت أنه "قشط" آخر الرضعة، لكنها حين اقتربت منه وجدت السائل غريبا وشمت رائحة أشبه برائحة البترول الخام، هكذا رجحت، كذّبت نفسها مرة ثانية وهي تعرف أن هذا السائل لم يدخل بيتها منذ تزوجت!!، رفعته إلى صدرها وهو مازال نائما، مسحت أثر السائل على الوسادة، بمنديل ورقي وقربته من أنفها فتأكدت أنه كذلك فعلا، أوسدت الطفل على الأريكة في الحجرة، وعادت تغير بياضات الوسادة وهي لا تريد أن تفكر، من أين أتى هذا السائل الغريب ولماذا هذه الرائحة، وحين أتمت المهمة رجعت إلى الطفل حيث وسدته على الأريكة، ففزعت من لونه الشاحب، وانتبهت إلى أن صدره لا يرتفع ولا ينخفض، توجست شرا واقتربت من وجهه تبحث عن أنفاسه فلم يصلها شيء، رفعته إليها وهي تصرخ في لوعة "ابني ضناي".
دخلت ابنتها الصغيرة فجأة على صراخها وسألتها بلهفة: "أمي أمي! فيه ماذا"؟
انتبهت إلى فزع ابنتها، والوديعة مازالت ملتصقة بصدرها وقالت: "أولاد الكلب".
قالت البنت: ما لهم؟
قالت الأم: السفلة
قالت البنت: (وهي تنظر إلى لون أخيها): وأخي؟ ماله؟
قالت الأم: مات، قتلوه.
قالت البنت: مات يعني ماذا؟ من هم؟
صمتت الأم فجأة: وهي تدمدم وتقرض على أسنانها فتخرج من بينها كلمات غير مفهومة
قالت البنت: ماذا تقولين يا أمي.
لم ترد الأم.
وضعت الوديعة بجوارها، غطت وجههه، دفنت وجهها بين كفيها، هزت البنت أمها وراحت تناديها مرارا فلم ترد، فانصرفت خائفة تعدو خارج الحجرة دون أن تنبس.
لم تعرف الأم كم مضى من الوقت وهي متجمدة هكذا حتى سمعت صوت كابح (فرملة) سيارة في الشارع، فقفزت تنظر من النافذة، ورأت ابنتها تعدو سليمة بين العربات، ثم رأتها وهي تلجأ إلى شرطي المرور باكية، ووصلها صوتها بوضوح وهي تسأل الشرطي متشبثة بردائه:
- "أين أمي؟"
انقطع تيار الكهرباء فلم تسمع الأم جرس الباب وابنتها تدقه، لكنها ذهبت وفتحت الباب ولم تجد أحدا، فعادت لتجد البنت في الصالة، فراحت تدمدم وهي تحتضنها وتبكي:
- "وقال الإنسان مالها"، أين كنتِ؟
قالت البنت: الإنسان؟ مالها؟!! مالي؟! أنا بخير يا أمي، أنا لم أغادر الصالة منذ تركتك في الحجرة معه، مالك أنت؟
عاد تيار الكهرباء، فملأ الضوء الصالة من جديد، وسمعت الأم بكاء الطفل من وراء الباب، فاندفعت هي وابنتها إلى الحجرة وهي لا تكاد تصدق.
نشرت في الدستور بتاريخ 17-2-2010
اقرأ أيضا:
هذه المحظورة: مصرح لها بالسير في الممنوع!!! / عن عمق الفرحة، وسرقة النجاح! / نتائج انتخابات الرئاسة سنة 2011 وتوقعات 2017