جلس سعيد على كُرسيه المعتاد في القهوة الشعبية حيث يأتي من الحين للآخر كي يقضي بعض الوقت مع أصحابه بكري وأبو علي في لعب الطاولة وتدخين الشيشة والنميمة والشكوى من غلاء الأسعار وقلة الرواتب وزحمة المواصلات والزمن المر الذي لا يعرف صاحباً أو صديقاً، ولم يلبث صديقه بكري أن حضر ولحق بهما أبو علي، وبعد أن سلَّم الجميع على بعضهم فتح سعيد النقاش وقال:
ـ إيه أخبار ماتش الكورة بتاع امبارح؟
ـ ردّ عليه أبو علي: وده سؤال يا أبو أحمد؟ فتحت علينا المواجع ليه بس كده؟
ـ رد سعيد عليه: ليه هو فيه أيه؟ مش ألمانيا اللي غلبت بالماتش؟ مش أنت بتشجع ألمانيا يا بكري؟
ـ دخل أبو علي الخط وقال: هو آه بس أنا باشجع البرازيل اللي خسرت!!! يا راجل بلاش تفكرني ده أنا تنرفزت نرفزة من النتيجة المهينة دي لدرجة أن الضغط عندي طلع وإضطريت آخذ الدوا علشان أنزله!!!
ـ أجابه سعيد: طب وتتنرفز ليه؟ هم يعني البرازيليين كانوا بقية أهلك؟ علشان تتنرفز لهم؟
ـ أجاب أبو علي وهو يستغرب كلام سعيد: أيه الكلام ده؟ معقول؟ ده الفريق البرازيلي على سن ورمح يا راجل.
ـ ابتسم سعيد ساخراً وقال: يعني لو كان ربحوا كانوا ادوك حصة من الجايزة بتاعهم؟
ـ لا.
ـ هزَّ سعيد كتفه وقال: طب زعلان عليهم ليه؟ يعني على رأي المثل "العروسة للعريس والجري للمتاعيس"؛ همه يربحوا ويأخدوا الكأس وأنت ضغطك يطلع؟أما عجايب والله!!!
ـ وهنا دخل أبو علي على الخط وقال: أنت يا سعيد من يومك ما بتحبش الكورة، وفي كل ماتش تطلع بالحبتين دول وهات يا نصايح!!!
ـ اعتدل سعيد في جلسته وقال بصوت لا يخلو من العتب: علشان مش راضيين تفهموا إن الكورة دي لعبة مثلها مثل أي فيلم أو مسلسل بنتفرج عليه وبعدين يخلص ويروح كل واحد لحال سبيله لا لينا دعوة مين ربح ومين خسر!!!
ـ تعجب الإثنان من كلامه وردّ عليه أبو علي: بتقول أيه!؟ فيلم!؟ أنت جرالك حاجة يا سعيد!؟ فيلم أيه ده!؟ طب وشرفي!! إني فرحت لما فازت البرازيل على فرنسا السنة اللي فاتت أكثر ما فرحت بنجاح بنتي في الثانوية العامة!!!
ـ كاد رأس سعيد أن ينفجر مما يسمع وقال: بقى يا راجل، يا مفتري، تفرح بماتش كورة لا ليك فيه لا ناقة ولا جمل أكثر من نجاح بنتك، دمك ولحمك، في الثانوية العامة؟ بقى ده كلام ناس عاقلين يا عالم!!؟؟
ربّت بكري على كتف سعيد وقال: تصدق بالله يا سعيد؟
ـ لا إله إلا الله، قول يا سيدي.
ـ أنا مرّة من سنين طلّقت الولية مراتي علشان قعدت تنق في الماتش لحد ما طيّرت النقطتين، وطول الماتش وهي عمال تنق قال أيه: الولد عيان، الواد حرارته طالعة....، لحد ما راح الماتش بشربة ميه، وأنا ما كذبتش خبر رحت رامي عليها اليمين وباعثها هي والواد على بيت أهلها في نفس الليلة، لولا جماعة الخير توسطوا ورجعتها بشرط إنها حلفت كل ما يكون فيه ماتش كورة ما تقعدش في البيت!!
ـ لم يعرف سعيد ماذا يرد على مثل هذه السطحية والتفاهة ولكنه قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، طلّقت مراتك أم عيالك علشان ماتش كورة!؟ ده أيه الإفترا ده!؟
ـ رد بكري عليه وهو ينفخ صدره كالديك: أنا راجل ملتزم، وما أسمحش لحد أنه يقّر على الفريق اللي أنا بأشجعه، ده أنا وافقت إن إبني "سعد" يكّمل دراسته في ألمانيا دوناً عن البلدان كلها بس علشان أنا بأشجع الفريق الألماني!!! مع إن الواد يا عيني شايف الويل من صعوبة اللغة الألمانية!!!
ـ ضحك سعيد وقال: أيه الحلاوة دي كُلها؟ ملتزم قوي حضرتك؟ الواد إبنك يضيع مستقبله علشان إنت بتحب الفريق الألماني؟ الحمد لله إنك ما بتشجعش فريق زيمبابوي كان الواد راح في شربة ميه!!!
ـ ضحك الرجال الثلاثة وشربوا الشاي وعاد سعيد ليفتح الموضوع: بس يا جماعة ما يصحش كده، الواحد يشجع رياضة آه، بس مش معقول أن حياته وعيلته كلها تبقى تحت رحمة ماتش كورة! أنا عندي واحد صاحبي إستقال من شغلانة كويسة جداً علشان المدير بتاعه كان "أهلاوي" وهو "زملكاوي"! بلا نيلة، خلي "الزمالك" يبقى ينفعه، أهو قاعد بلا شغل بقاله 6 أشهر!!
ـ ردّ عليه أبو علي بحدة: سعيد لحد هنا وبس، أوعَ تجيب في سيرة "الزمالك"! أنا لولا العيش والملح اللي بينا كنت ردّيت عليك بشكل تاني خالص!
ـ ابتسم سعيد بأسى وقال: ثاني إزاي يا صاحبي؟ حتضربني مثلاً؟ أيه الغيرة دي كلها؟ ده النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إتسب وإنشتم في طول أوروبا وعرضها ولا حد فيكم طلع ضغطه ولا طلع صوته..!! ونازلين تشجيع في فرق الدول اللي بتهين ديننا ونبينا كل يوم.. ودلوقتي عاوز تضرب صاحبك يا أبو علي!؟ هي دي الرجولة!؟
ـ ندم أبو علي وخجل وقبّل رأس سعيد وقال: ولا مؤاخذة يا سعيد يا حبيبي، إنت صاحبي وتاج راسي، بس لما تيجي سيرة الكورة با أبقى واحد تاني خالص ولا كأني أنا!!!
ـ قال بكري: آه والله وأنا نفس الشيء لما باتفرج على ماتش كورة با أبقى عاوز أحط صُباعي في عين اللي قاعد جنبي!!!
ـ قال سعيد: لا ده إنتوا مجانين رسمي، بقى ولازم يودوكم السرايا الصفرا، ولا ممكن رجالة في سنكم يفكروا بالشكل دهـ وامّال سبتو أيه للعيال الصُغيرة!؟
ـ ضحك الرجال الثلاثة، وطلب سعيد شاي ثاني للجميع، وبدأو بلعب الطاولة ومرت نصف ساعة عندما رنّ تلفون بكري المحمول: ألو مساء الخير يا افندم، حضرتك الأستاذ بكري والد سعد بكري؟
ـ رد بكري بصوت قلق: أيوه تمام كده، بس مين حضرتك ولا مؤاخذة؟
ـ أنا القنصل المصري في ألمانيا!
ـ توجس بكري خيفة وإقشعر بدنه وقال: خير يا افندم فيه حاجة؟ إبني سعد حصل له حاجة؟
ـ ربنا يصبرك يا سيد بكري!
ـ رد بكري وهو يصرخ بأعلى صوته: أيه؟ بتقول أيه؟ فيه أيه؟
ـ إجتمع الرجلان وعدة أشخاص من القهوة حول بكري بعد أن سمعوا صراخه وهو يقول: قوللي فيه أيه؟
ـ إبنك سعد امبارح بالليل وهو راجع من الكلية اتقتل على أيد مجموعة من مشجعين المنتخب الألماني العُنصريين؛ ضربوه ضرب جامد جداً والنهارده في المستشفى ربنا خذ أمانته! البقية في حياتك إحنا حنعمل الإجراءات اللازمة....
ـ سقط التلفون من يد بكري وأجهش بالبكاء وهو يصرخ: يا خرابي يا بكري، يا مصيبتك يا بكري، الواد راح في شربة ميه يا بكري، وعلى ايد مين؟ مشجعين الفريق الألماني اللي انت موّت روحك علشانه، لا حول ولا قوة إلا بالله، ربنا يخرب بيوتهم كلهم الفريق الألماني على الفرنسي على الإيطالي، على اللي جاب القرف ده على بلادنا وبلانا فيه، آه يا ابني آه يا حبيبي.
أخذ بكري يبكي ويصرخ ويضرب على رأسه في منظر محزن. نظر الجميع إليه بصمت ونزلت دمعة من أعين من كل من شاهد هذا الموقف المأساوي ومّرت برهة من الزمان حتى جاء المعّلم صاحب القهوة وبيده ورقة كُتب عليها:
"هـذه القهـوة لا تعـرض مباريـات كـرة قـدم من الآن فصاعـداً!!!"
واقرأ أيضاً:
الجواز الأمريكي شهادة أعلى من الدكتوراه! / الطاقة الكهروانقطاعية!!!