ما زلت أشاهد أفلاما تذكرني وتوقظني، وتمتعني، وتؤنسني أن هناك في العالم من يطرح نفس الأسئلة من بعض ما يدور بخاطري أندهش من هؤلاء الذين يستودعون غيرهم عقولهم، ويتخلون طواعية عن مسؤولية الاختيار بعد تفكير وتأمل، وبعد تعلم وبحث!!
أستغرب الإنسان الذي يتخلى عن إنسانيته ليصبح مجرد نفر في قطيع يقوده الراعي، ويطعمه حتى يأتي أوان ذبحه، وأغتاظ حين يجري هذا -في حالة أغلبنا- في أجواء وطقوس، ومناخات تتمسح بالدين، حيث يزعم المستسلم والمسيطر، السالب والمستلب، القاهر والمنقهر، الظالم والمنصاع للظلم، أنهما ينفذان أمر الله، ويستسلمان لمشيئته!!
أعجب ممن حرره الله ثم يختار عبوديته لغيره من البشر، وأتأمل فيمن يردد بغير وعي ولا فقه كلاما عن الوعي، وعن الفقه!!!
لكنني أنظر من جهة أخرى فأرى السباحة ضد التيار صعبة، وأرى سهولة الاستسلام للانسياق وسط الجموع والقطعان، وتكرار إنتاج الأكاذيب المتداولة، والبحث عن سلطة تتحمل عن الإنسان أمانة الاختيار، ومسئولية التكليف، ومهمة الشهادة عن العالمين حتى إذا توسمت في شخص ما، أو جهة ما، أو تحت لافتة ما، حتى إذا حدثتك نفسك أنه لا يضيعك خلعت عنك عباءة القلق النبيل، وضرورة الإنسانية، وعبء العقلانية والتدبر والتفكر، وكدح السؤال الدائم، والشك والبحث سعيا إلى وجه الله، تخلع عنك هذه العباءة والأعباء لتنضم إلى صفوف القطعان الكسلى طائعا مختارا منصرفا إلى شئونك "الأهم": جلب العلف، وملاحقة النهود والأفخاذ، وتكاثر الأموال، والأولاد والزينة، ثم تزعم وأنت تتجشأ بعد شبع، أو يقرصك الجوع: "طبعا أنا مؤمن، وموحد بالله"، ولا بأس أبدا من أن تخصص وقتا معتبرا لمحاكمة إيمان من حولك، وتطبيق ما تعتقد أنه معايير الصواب والخطأ، ومقاييس التقوى، ومواصفات الجودة الدينية، فتمارس سلطة بث المواعظ، ومحاسبة الآخرين بدلا من الاكتفاء بالنصح الرقيق، والتذكير اللطيف، لأنك "مؤمن"، أو تحسب أنك كذلك، ولأن هذه هي مقتضيات الإيمان كما تراها، ولأنك مجرد نفر في قطيع فقد أحطت نفسك بمن لا ولن ينكر عليك كل هذا العبث، ولن ينتبه إليك وأنت تتحول من آدمي إلى حشرة، أو إلى كائن بلاستيكي لا طعم لك، ولا لون، ولا رائحة، ولا إحساس، ولن ينكر عليك وأنت تنسلخ من فطرة الله الجميلة فيك مبدعا ومتسائلا ومتأملا ومندهشا شعورا وخيالا، وترتدي بدلا منها صولجان التسلط، وأقنعة المسخ والمساخة لتصبح مثل الباقين!!
جارفة هي تلك الأكاذيب التي تغرقنا فينجرف بعضنا، ويبحث آخرون عن قوارب يركبونها تأويهم وسط الأمواج، بينما لا يجد النوع النادر خيارا غير السباحة ضد التيار، وربما الموت الشريف بعد أن تلاحقهم لعنات القطعان منهم المتسلطون والخانعون، أرباب وجهة النظر الواحدة، أصحاب الأفق المحدود، والبصيرة العمياء، وأخلاق العبودية أسيادا وأقنانا.
هو سؤال الحياة إذن حيث تختار بين الانقياد والرفض، وحيث يسهل العيش على ترديد القوالب الشائعة، والأكاذيب الملفقة بعناية أو بغير، وتواطؤ من يعرفون الحقائق ويصمتون، ومشاركة من يعتقدون أنهم يعرفون بينما هم جزء من الأكاذيب بشكل غير مباشر، ودعم غير مباشر لعقلية الإذعان والقطيع والتسليم لسلطة تنوب عن الإنسان في التفكير، والبحث، والسؤال، والقرار، والاختيار.
في "قلعة شايتر" أكاذيب رهيبة يصنعها محترفون مدججون بالألقاب العلمية، ومسلحون بالمشروعية القانونية، وسلطة المؤسسات، وعنف السلاح المغطي بالقانون والدستور... إنها نحن في قبضة السلطات المادية والمعنوية تطلب الانصياع والإذعان باسم الشعب، أو باسم العلم، أو باسم الدين ممن يعرفون مصلحتنا أكثر منا، ويصفون لنا الطريق القويم الذي ينبغي أن نسلك لأنهم العلماء، أو المتخصصون، أو أصحاب الرأي السديد، وهو محض أجزاء من منظومة الأكاذيب يذبحنا واحد ليسلمنا لآخر يسلخنا، ثم لثالث يقطع أوصالنا، ولا يهم أن نفنى، وهم مسيطرون، أو أن يتكدر عيشنا، وهم منعمون، أو أن نكون تراثا أو ترابا، وهم زعماء يقودون.
بدلا من أن يقدموا العون لنا لنفهم ونبادر ونمتلك زمام الإنسانية بحسن التفكير والتدبير، والسؤال والاختيار، والرأي والقرار، ينصبون من أنفسهم أوصياء، ومداخل للإيمان القويم، والطريق المستقيم!!!
والأدهى أن ينصبهم الناس، ويسلمون لهم عقولهم ومصائرهم فتصبح الأكاذيب نظام حياة، وطريقة عيش، ومنظومة تحل محل الإنسانية، والبحث عن الحقيقة، والكدح في تدبر كل إنسان لنفسه وحاله ومآله!!
طبعا من كل حق إنسان أن يختار ما يحلو له، ومن الناس من يختار الكفر، وهو حقه، ومنهم من يختار ألا يختار، وهو حقه أيضا، لكن المصيبة أن منظومة الحياة الكاذبة هذه تطحن كل محاولات قول الصدق الغريب المستنكر من كثرة ما تعود الناس على الأكاذيب!!
وفي "قلعة شايتر" يقف فرد وحيد لديه مشكلاته الشخصية، وأحزانه العائلية، ويقرر أن يصل إلى الحقيقة، حيث الكل منهمك في صناعة أو استهلاك الأكاذيب، وربما يكون من يقاوم أقلية ضعيفة تعرف أن صوتها لن يكون الأعلى، وأن الأغلبية لن تنضم إليها، وأن الحقيقة ربما يتأخر ظهورها أكثر، ولكن الأقلية تنحاز للاختيار الأصعب، للإنسان وأسمى وأنبل ما فيه!!
في "أجورا" نرى نفس الملمح، نفس الصراع الأبدي بين الباحثين عن الحقيقة، والباحثين عن الوظيفة، أو العشيرة، أو السلطة المعنوية، أو أي مجد، أو علو في الأرض!!
كتبت من قبل عن "المجرم الأخير"، وأقول أن المتسلطين على رقابنا في قصور الحكم، أو دوائر رأس المال، أو كهنوت الدين، هؤلاء وأمثالهم يستمدون قوتهم وشرعية واستمرار وجودهم من صمت وإذعان ومشاركة الجموع التي عطلت عقولهم، وقيدت حركتها، ورهنت حياتها، وربطت نفسها بسلاسل من حديد ضمن قطعان العبيد لسادة يملكون أكثر، أو يعرفون أكثر، أو يخيفون أكثر!!!
وحين يجهل الناس جوهر خطة وخط وفكرة وعقيدة "لا إله إلا الله" يصلون إلى هذا الوضع المزري تخبطا، وبؤسا، وعبودية لغيره!! الكل مشارك بقدر علمه، وسعيه ليعرف، ويعمل شيئا في هذا الوضع المنحط، والله مطلع على كل جهد، وكل إنكار، وكل محاولة تغيير كما هو سبحانه مطلع على كل تمرير واستسهال وكسل أو عون بتشجيع أو بصمت!! هذا هو السؤال المتكرر والمرء حيث يضع نفسه ويختار، كما أراد الله تماما، أن يختار: دفء الحظائر، أو مهب الرياح، طمأنينة الإذعان، أو زمهرير السؤال، بهجة العمى، أو قلق البصيرة، راحة السكوت أو ثمن الشهادة.
كثيرا ما سألت نفسي بشأن كثيرين هل هم حقا يقرأون هذا القرأن الذي أقرأه؟!! هل هم حقا مؤمنون بنفس الإسلام الذي أتبعه؟! وأجدني أردد: اهدنا الصراط المستقيم، وأسأل الله الفهم والفقه وحسن الخاتمة، وسنرى يوم القيامة عجبا.
واقرأ أيضًا:
على باب الله: فيلليني.... مشاركة/ على باب الله: أزمة حشيش