لم يكن سعيد يعلم أن حلمه بالحصول على شقة مستقلة يعيش فيها مع زوجته وأولاده في مدينته بغداد بعيدا عن الشجارات اليومية بين الزوجة والأم سيقوده في نهاية المطاف إلى أحد المعتقلات الأمريكية في العراق الخاصة بالإرهاب حيث لا هو يعرف مكانه ولا أحد يستطيع الوصول إليه.
بدأت الحكاية عندما تمكن سعيد من العثور على شقة مناسبة بعد أشهر من البحث والتحقيق في المناطق المختلفة في بغداد والتحقق من المليشيات التي تسيطر على كل منها على الرغم من الحكومة تدعي أنها أصبحت مسيطرة على كل أنحاء بغداد وأن الأمن صار مستتبا فيها وبعد أن وافق صاحب الشقة الذي كان حتى فترة قصيرة مضت من المعدمين واليوم أصبح بفضل الحكومة الجديدة من كبار الملاكين (بالحلال!!!) على تأجير الشقة لسعيد لمدة عام واحد ظن سعيد أن المشكلة قد انتهت وأن ما عليه سوى نقل أثاثه والتنعم في شقته الجديدة.
اكتشف سعيد أنه نائم في العسل وأن الانتقال من محلة إلى أخرى في بغداد أصعب بكثير من الهجرة إلى بلد آخر ولربما كان هذا هو السبب في أن الكثير من العراقيين فضلوا ترك بلدهم على الانتقال إلى بيوت أخرى, فقد اكتشف أن نقل الأثاث يستلزم معاملة عريضة طويلة بدأت في مخفر الشرطة عندما قدم سعيد الأوراق للضابط الذي قال له:
- مبروك أخ سعيد إن شاء الله شقة الهناء يا رب
رد سعيد مبتسما:
- هناء أو شقاء لم تعد تفرق معي المهم شقة والسلام
نظر الضابط إلى الأوراق ثم قال:
- يا أخ سعيد إنجاز المعاملة يقتضي 3 نسخ من جميع مستنداتك الشخصية من بطاقة سكانية وعقد زواج وشهادة ميلاد الأطفال مرفقة بعريضة توضح سبب الانتقال وشهادة حسن سيرة وسلوك يوقع عليها الجيران في المنطقة القديمة, وعقد إيجار الشقة الجديدة يكون مختوما بختم الدلال المرخص له بالعمل.
صدم سعيد من كل هذه الطلبات ولكنه قال أخيرا:
- طيب كل هذه وفهمناها ولكني عثرت على الشقة بنفسي وليس لدي ختم دلال, فما العمل؟
همس الضابط:
- بسيطة أخي تدفع الرسوم 40 ألف دينار وأني أختمها لك
ثم فتح الدرج, فألقى فيه سعيد المبلغ المطلوب فأخرج الضابط ختما لمكتب دلالة من بين عشرات الأختام الأخرى المتنوعة وختم على العقد, ثم قال لسعيد:
- طيب أخي راجعنا إن شاء الله بعد شهر تكون المعاملة راحت للداخلية ورجعت
صعق سعيد وقال للضابط:
- أي شهر رحم الله والديك؟ أنا أدفع الإيجار منذ توقيع العقد حرام ها الشيء, أنا مواطن عراقي أريد أنقل من محلة إلى محلة أخرى ولست مهاجرا إلى كندا كي أنتظر كل هذه المدة
قال الضابط بابتسامة صفراء:
- أخي هذه هي الإجراءات فنحن يجب أن نتبع القانون في (دولة القانون) ولكن هناك خط سريع لإنجاز المعاملات ولكنه يكلف 100 ألف دينار عراقي إذا تحب أهلا وسهلا
وضع سعيد المبلغ مكرها في الدرج المفتوح ولعن الساعة التي أصبح فيها العراقي بحاجة إلى فيزا كي يتنقل بين مناطق مدينته.
إستلم سعيد معاملته وذهب بها إلى المجلس البلدي حيث طلب منه الموظف إحضار كفيلين من نفس المحلة التي ينوي الانتقال إليها وبعد أسبوع من البحث تم العثور على الأشخاص المناسبين والذين كانوا ومن محاسن الصدف من معارف نفس الموظف واللذين تقاضى كل منهما 50 ألف دينار مقابل أن يكفل سعيد . وبعد أن ملأ سعيد عشرات الاستمارات وصور عشرات المستندات وراجع عشرات المرات حصل أخيرا على موافقة المجلس البلدي الموقر وأبلغ أنه يجب أن يأخذ المعاملة إلى فوج الحماية للحصول على الرخصة النهائية.
فرح سعيد الذي ظن أن معاناته قد انتهت ولكنه وبمراجعته مقر الفوج اكتشف أنه ما زال في بداية المشوار وأن عليه استصدار عشرات الوثائق الأخرى وأدرك أن العملية لن تنتهي قبل أشهر, ذهب إلى بيته مهموما ومغموما وحكى لجاره عن معاناته فقال له:
- شف يا عزيزي حبال دوائر الدولة طويلة طويلة والفساد مستشري فيها ومعاملتك لن تنتهي إلا مع انتهاء عقد الإيجار وستكلفك أكثر من ثمن شراء شقة.
أجاب سعيد متنهدا:
- والعمل يا صديقي؟
قال له الجار بصوت خافت:
- ما عندك غير التهريب
أجاب سعيد بهلع:
- يا تهريب أخي؟ عمي أنا أريد أنقل أثاث بيتي وليس مخدرات, ولم يجب أن أهرب أثاثي في مدينتي؟ ما هذه المسخرة ما هذه الدولة العجيبة الغريبة؟ طيب وعلى فرض وافقت من الذي سيهرب لي أثاثي؟
قال له الجار:
- هناك ضابط شرطة سيؤجرك سيارته مع رخصة التردد الخاصة بها وستدفع له فقط 200 ألف دينار فما رأيك؟
وافق سعيد مرغما وتم الاتفاق ودفع المبلغ وحمل الأثاث في السيارة المعينة وساق السيارة بنفسه واجتاز الحاجز الأول والثاني ولما وصل للحاجز الثالث أوقفه أحد الضباط وقال:
- ماذا تفعل هنا؟ وأين رخصة التردد؟
أخرج له سعيد الرخصة فنظر إليها الضابط ثم اتصل باللاسلكي ثم قال شيئا للجنود وفجأة رأى سعيد 10 بنادق مشهرة إليه والضابط يصرخ:
- انزل من السيارة يا كلب انزل يا إرهابي
نزل سعيد والرعب يملأ قلبه وانبطح على وجهه على الأرض وتم اقتياده معصوب العينين إلى جهة مجهولة حيث لا يزال يقبع لحد الآن مجهول المصير لأنه لم ينتبه إلى أن رخصة العبور التي على السيارة لا تشمل الشارع الذي مر منه!!
وكل شقة والمواطن العراقي بخير!!
واقرأ أيضاً:
المقامة العوجاء في وصف الرؤوس الصلعاء / كيف ستخفي الرائحة يا أوباما