ربما طبعت الهيئة المصرية للكتاب ضمن سلسلة القراءة للجميع ما كتبه الراحل الدكتور فؤاد زكريا تحت عنوان: "خطاب إلى العقل العربي" كنوع من التكريم للرجل الذي عاش بعيدا أو مبعدا عن الأضواء كما يحصل مع أصحاب العقول المفكرة المهمة والمهمومة حين يبتعدون عن القبائل السياسية، والشلل الثقافية، ومواكب التأييد، أو أبواق التنديد، وهؤلاء ممن لا بضاعة عندهم غير الفكر، ولا أداة لديهم غير القلم يضمنون لأنفسهم مقعدا ضمن المغضوب عليهم من السلطة، والضالين في معيار الجماهير الغفيرة التي لا تكاد تقرأ، ولا تكاد تحترم غير قوة المال، وسطورة السلطة باسم المعرفة، أو باسم الدين، أو بالعصا والصولجان والعرش!!!
أكتب هذا وصديقي الشاب في حالة انبهار بما كتبه الجميل د. جلال أمين في "عصر الجماهير الغفيرة" شارحا ومحللا جانبا من أزمة واقعنا، وعلل أهلنا العقلية الجمعية المترتبة على إجراءات متنوعة انسحقت فيها المعرفة تحت الأقدام الغليظة للجهل المستشري، وضاع صوت الحكمة وسط ضجيج التشويش، وصخب النعيق الذي يحسبه الجمهور عديم الذوق والتذوق شدوا شجيا يستحق الاحتفاء.
وصديق آخر ينصحني، ويلخص بعضا من خبراته بقوله: الفكر صناعة ثقيلة لا يحتفي بها من بطنه جائع، ورأسه مشغول بتدبير الأساسيات، ونفسه محرومة من إشباع أبسط الاحتياجات الإنسانية، ودماغه خاوية بلا تعليم، ولا ثقافة!!
أكتب هذا وأقوله متوقعا أن يرقع البعض بالصوت الحياني ليذكرني بأننا شعب مفيش أحسن منه، ودمنا خفيف، وبنحب ربنا، وغير ذلك من دفاعات تعتبر نفسها ردا على ما يعتبرونه تشاؤما وسوداوية مثل الصديقة التي ما تفتأ تنصحني بأن تكون الحلقة القادمة من برنامجي الإذاعي فش غلك مختلفة عما سبقها، لأن الناس عاوزة تفرح!!
وآخرون لا يملون من توجيه نفس السؤال البرئ في ظاهره، عن الحلل والحلول، لأننا دائما نتكلم في المشكلات، ولا نطرح حلولا، ترلم.. لم.. لم!!!
فإذا كنا أمام مريض دخل إلى العناية المركزة بارتفاع في ضغط الدم، ونسبة السكر، وإنزيمات الكبد، وسرعة الترسيب، ويعاني بسبب هذا من هذيان، وشبه غيبوبة، وقرح فراش، فإن من الحل أن نضبط هذه المعدلات المختلة فورا لأنها تضع حياته في خطر، ومن الحل أن نبحث عن الأسباب الكامنة وراء هذا الخلل فنصلحها لاحقا، ومن الحل أن يجري هذا المريض من التغييرات على نظامه الغذائي والحركي، والحياتي عامة ما يكفل عدم تكرار هذه الاضطرابات جميعا!!
ما هو السر الأعظم، والطلسم المستغلق، والوصفة الممتنعة في فهم أن علاج الشعوب والمجتمعات هو مثل هذا الجسد المريض، والعقل المعتل، بل والنفس المنحرفة عن السلامة؟!
تأمل وبحث وفحص وتدقيق في التشخيص، ثم سرعة وفاعلية في تطبيق العلاجات والتدخلات العاجل جدا منها، ومتوسط الأجل، وطويله.
ولا بأس أن يحدد كل منا مكانه فيرى أنه ما يزال غير واع بالقدر الكافي بما يشبع الإلمام بالتشخيص، ولا يعيبه أن يقضي بعض الوقت في القراءة والتعلم والتدرب والفحص ليتعرف على خريطة سليمة وواضحة للعلل ونواحي الخلل، بينما قد يرى آخرون أنهم أكثر اهتماما بالتدخلات السريعة العاجلة من قبيل إنقاذ أشباه الموتى، وإطعام الجوعى، وتضميد الجراح النازفة اجتماعيا وإنسانيا، بينما ينفر آخرون لعلاج طويل للعقل لإيقاظه من سباته، وإزالة الصدأ عنه من قلة الاستخدام، وطول الإهمال.
ما هي المعضلات والعقبات التي تحول بيننا وبين أن نتحرك جميعا في هذه السبل؟! إذا كنا نريد أن نتحرك لأنني أحيانا أتصور أن المسألة بالنسبة للكثيرين منا لا تتخطى الحبر يسيل على الورق، أو الطرب لسماع طرقعة الكيبورد، وقضاء الوقت في القيل والقال، ودمتم.
إذا كنا نعرف تماما أن تشوها عميقا قد لحق بنا، بعقولنا ونفوسنا وأرواحنا من تربية أسرية غير رشيدة، وتعليم معتل في هويته، وكفاءته، وإعلام يجهل دوره وأدواته، ومجتمع منهك بالفقر والتفكك في حالة بعضنا، أو بالترف، وأمراض الاستهلاك في حالة آخرين.
إذا كنا ندرك هذه العلل فلماذا لا نتحرك جميعا طلبا للعلاج الفوري منها، والعلاج ممتد المفعول، طويل الأمد، متعدد المسارات والخطط؟!!
ومن ننتظر؟! الأسرة التي نزعم أنها من أسباب العلل، أم السلطة السياسية التي تحرس جهلنا، وتشجع تخلفنا؟! أم المؤسسات صاحبة الحسابات والمصالح؟! أم الشخصيات العامة، وكل منهم له خطة وخريطة أولويات وتصورات؟! ماذا ينتظر العقل العربي ليمارس حقوقه وواجباته في السؤال والإبداع، والاختلاف والنقد، والمراجعة، والاشتباك مع عالم زاخر بالجديد منفتح على كل القضايا بلا أبواب، ولا نوافذ، ولا حدود؟! ما الذي يكبلنا إلى مقاعد المتفرجين، أو يجعلنا نصر على موقف الحماقة والبلاهة والاستسلام للعلل، والاكتفاء بتفاؤل المتأخرين عقليا، أو تشاؤم المكتئبين نفسيا؟!!
ما الذي يمنع أن ننهل من المعرفة بلا حدود، ونتعاون في معالجة أنفسنا من ميراث ثقيل يخنقنا، ويضعف فاعليتنا، ويهدد سلامنا النفسي.
هل هو مجدٍ أن نخاطب عقلا غير موجود، أم أن الأولى أن نتعاون في البحث عنه واستعادته؟!
أهلا بالأسئلة، وأهلا بعام جديد على الأبواب يسألنا ماذا أعددنا له.
واقرأ أيضًا :
على باب الله: أزمة حشيش/ على باب الله: إنه الفن يا أحمق