تم تفنيد كثير من الشبهات التي تكتنف الطب النفسي، والرد عليها في مقالات طيبة سابقة، وسأحاول في هذا المقال ردّ الخلاف -بين الطب النفسي والثقافة السائدة- إلى جذوره، وبيان أصله الذي تفرعت عنه سائر الشبهات المنتشرة في الأوساط...
ولعله إذا تم إزالة الخلاف بين الطرفين في الأصول سهل بعدها إزالة الشبهات الفرعية التي تعيق الناس عن التعامل من الاختصاصين النفسانيين، وسهل على الاختصاصيين فهم وجهة نظر العامة، وإيجاد حل للخلاف القائم.
ويمكن ردّ الخلاف بين الطرفين إلى ما يلي:
أولًا: الاختلاف في استخدام المصطلحات:
وهذا أصل كبير الأهمية في الخلاف، والإحاطة به تترجم كثيرًا من ردات الفعل لدى الناس تجاه المرض النفسي.
المصطلح الأول: المرض النفسي:
- المرض النفسي عند الأطباء: هو المرض الذي (تشكل فيها الظواهر النفسية والمعرفية (كالتفكير والشعور والإدراك والسلوك) جانبًا أساسيًّـا سواءً في سبب المرض أو صورته الإكلينيكية). إذن المرض النفسي عند الأطباء، مرض كسائر الأمراض العضوية، غير أنه يؤثر على الظواهر النفسية والمعرفية لدى الإنسان. وعلى هذا الأساس يتم التعامل معه، فيعالج المريض بالأدوية، بالإضافة إلى العلاج النفسي الذي تتطلبه طبيعة هذه الأمراض.
- أما المرض النفسي في الثقافة السائدة: فهو مرادف "لمرض النفس"، أو "مرض القلب"، الذي يطلق على الخصال السيئة التي يتصف بها الإنسان، فتعيقه عن بلوغ الغاية في القرب من الله تعالى، ومن تلك الأمراض ما يلزم منه الدخول إلى جهنم، كالنفاق. وهذا مصطلح إسلامي مستخدم في القرآن الكريم، فقد وصف الله تعالى المنافقين بقوله: ((فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)) [البقرة:10].
ولهذا يستنكر الناس أن يكون للدواء سلطان على علاج مرض النفوس، ويقولون: على هذا يمكننا أن ننقل الشخص من الكفر إلى الإيمان بحبة دواء!! ولعل مصطلح "مرض النفس" في ثقافتنا، أقرب ما يكون لما يطلق عليه في الطب النفسي: اضطرابات الشخصية. والحقيقة: أن كلًا من أمراض النفوس، واضطرابات الشخصية لا تعالج بالأدوية!
وينتج عن الخلاف في هذا المصطلح:
* شبهة أن المريض النفسي ناقص الإيمان، عاصٍ لله تعالى.
* شبهة أن المرض النفسي لا يعالج بالأدوية، وذلك واضح، فالخصال السيئة لا يصح علاجها بالدواء، وعلى المريض أن يعالج نفسه بعمل إرادي.
* شبهة أن الدواء إنما هو عبارة عن تخدير للحس، وإقصاء للمريض عن واقعه لا غير، حيث يكون أخذ الدواء الذي يؤثر على الأمور النفسية -من وجهة نظر عامة الناس-، بمثابة شرب المسكر وتناول المخدر، من أجل الهروب من مسؤولية تغيير الصفات السيئة، ومسؤولية تحمل التكاليف.
- وإذا كان هذا هو مفهوم المرض النفسي عند العامة، فكيف يعبرون عن الاضطرابات التي يسميها الطب النفسي: "مرضًا نفسيًا"؟
إن الثقافة السائدة لا تدخل في مفهوم الأمراض إلا الجنون، الذي تتأثر فيه قدرة الإنسان على الإدراك، إما كليًا أو جزئيًا، وبهذا يكون مريضًا معذورًا بمرضه كما يعذر سائر أصحاب الأمراض الجسدية.
ولعل من أسباب هذا الحصر، أن الأحكام الشرعية مبنية على نظرة مختلفة، لا تشابه التصنيف الطبي، وإنما تقسم الناس حسب كمال قدرتهم للقيام بالتصرفات. وواضح للناس أن المجنون قدرته على الفهم مختلة، فهم يعذرونه، أما سائر الاضطرابات النفسية التي لا يتأثر العقل فيها، فحالها مجهول لدى العامة، وكذلك حكم الشرع عليها، لهذا يعاملونها بما لا يتناسب مع حقيقتها.
ويصعب على الناس عادة أن يستوعبوا كيف أن مريضًا بالاكتئاب -مثلًا- كامل العقل والإدراك، ومع هذا علينا أن نعذره في تصرفاته!! وكذلك مريض الوسواس، من الصعب جدًا -بالنسبة لمن حوله- إدراك كيف أنه لا يستطيع مقاومة أفكاره الوسواسية، وأفعاله القهرية، التي يأمره الشيطان بها، وهي أمور سخيفة بالنسبة للناس العاديين لا تحتاج إلى كثير عناء للتخلص منها! ومثله مريض الرهاب الذي يسمى: جبانًا في التعابير السائدة، وعليه أن يتخلص من جبنه، وكذلك القلق الذي يرد إلى ضعف الإيمان بالغيب وضعف الثقة بالله تعالى، وغير ذلك من الأمراض....
وينتج عن هذا الخلاف:
* شبهة أن كل مريض نفسي مجنون، وأنه لا يذهب إلى الطبيب النفسي إلا المجانين. لأنه إذا كان الطبيب يعالج المرضى، والمرض النفسي (حسب فهم الناس) مقصور على الجنون، فإن المريض النفسي مجنون!
ولهذا نجد أن المعالج النفسي، أو المرشد النفسي أحسن حظًا من الطبيب النفسي في فكر الناس، وذلك لأنه ليس طبيبًا يعالج المرضى ولا يعطي أدوية، فمن يدخل إليه ليس مريضًا ولا مجنونًا، وإنما متعب فقط يحتاج إلى بعض التشجيع!! وإن كانوا دومًا يتشككون في فكره، وفي مصدر الأساليب العلاجية التي يأتي بها.
أما سائر الاضطرابات النفسية الأخرى، التي لا يعدها الطب جنونًا، أي الأمراض العصابية، فالنظرة السائدة إليها مضطربة جدًا فمنهم من يعدها مجرد أحوال شعورية يمر بها الإنسان لحكمة أرادها الله تعالى، ولا تمت للمرض الذي يعالجه الأطباء بصلة. ومنهم من يعدها عقوبة على المعاصي والكبائر. ومنهم من يعدها دلع ودلال، ودواؤها الصرامة مع المريض. ومنهم من يردها إلى السحر والعين والجن. وقد يتبنى الشخص الواحد الاعتقادات كلها، فالمرض النفسي مرحلة انتقالية لمن يحبه، ودليل عصيان لمن يبغضه، وعين وسحر لمن يحتار في أمره.... الخ
والحقيقة أن هذه النظرة قد تكون صحيحة في بعض الأحايين، لكن الخطأ فيها هو الإطلاق والتعميم، والتشخيص الكيفي بغير دليل مقبول، والخلط بين السبب والعرض أحيانًا.
المصطلح الثاني: الاكتئاب:
- الاكتئاب عند الأطباء، من ضمن الأمراض النفسية التي يعالجونها، وله أعراضه المعروفة من الضيق، وفقدان المتعة في الحياة، واحتقار الذات، وتأثر النوم، والأكل، والقدرة على أداء الوظائف....
ولا يربط الأطباء هذا المرض بالوضع الديني للشخص، وإنما يوجهون اهتمامهم إلى أن هناك مجموعة من الأعراض، أصيب بها زيد من الناس أيًا كان، علاجها كذا وكذا، من الأدوية أو العلاجات النفسية. وفعلًا يرتاد العيادات النفسية أناس من طبقات شتى، على درجات متفاوتة من الالتزام، منهم المتدين ومنهم الشارد والعاصي، وكلهم تتم مداواتهم بالطريقة ذاتها.
- أما لفظ "الاكتئاب" في مفهومه السائد، فهو يختص بالحزن والتجهم والضيق والغم الذي يصيب العصاة عقوبة من الله تعالى على ذنوبهم، ويستشهدون لذلك: بقوله تعالى عن الثلاثة الذين تقاعسوا عن الخروج إلى الجهاد في غزوة تبوك: ((وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)). [التوبة:118].
فقد كان الضيق الذي أصاب هؤلاء الصحابة المتخلفين -نحوًا من خمسين يومًا-، عقوبة على تخلفهم عن الجهاد وركونهم إلى الحياة الدنيا.
فالاكتئاب إذن له مفهوم أضيق بكثير في ثقافتنا، نتيجة النظر إليه من زاوية مختلفة تمامًا عن الأطباء، وهذا يفسر حساسية الناس تجاه لفظ: اكتئاب.
وإذا كان الأطباء النفسانيون يستشهدون بأن الإمام الغزالي قد أصيب بالاكتئاب، للبرهنة على أنه مرض كسائر الأمراض يصيب البر والفاجر، فإن الطرف المقابل يروعه أن يوصم الإمام الغزالي بالمرض النفسي إذ هذا يعني عنده أنه عاصٍ مجنون!! ويقول: إنما هي مرحلة انتقالية مر بها الغزالي لينتقل بها من حال أدنى في الصلة مع الله تعالى، إلى حال أعلى.
ويستشهد الطرفان بقول الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال في وصف حاله: (فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا، ودواعي الآخرة، قريبًا من ستة أشهر أولها رجب سنة ثمان وثمانين وأربع مئة، وفي هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار، إذ أقفل الله على لساني حتى اعتقل عن التدريس، فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يومًا واحدًا تطييبًا لقلوب المختلفة إلي، فكان لا ينطلق لساني بكلمة واحدة ولا أستطيعها البتة، حتى أورثت هذه العقلة في اللسان حزنًا في القلب، بطلت معه قوة الهضم ومراءة الطعام والشراب، فكان لا ينساغ لي ثريد، ولا تنهضم لي لقمة، وتعدى إلى ضعف القوى، حتى قطع الأطباء طمعهم من العلاج وقالوا: هذا أمر نزل بالقلب، ومنه سرى إلى المزاج، فلا سبيل إليه بالعلاج، إلا بأن يتروح السر عن الهم الملم).
فأما الأطباء فينظرون إلى قوله: حتى اعتقل لساني... إلى آخر الكلام. ويقولون: إن هذه الأعراض مطابقة لأعراض مرض يسميه الطب النفسي اليوم: الاكتئاب. ويبرهنون بهذا على أن الاكتئاب يصيب البر والفاجر، لأن هذه الأعراض ظهرت عند الإمام الغزالي على قدره ومكانته الدينية.
وأما عامة الناس فينظرون إلى قول الغزالي: (فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا ودواعي الآخرة)، ويقولون: إذن لم يصب الغزالي بذلك حينها إلا لتقصير منه في جنب الله تعالى إذ كان طلب الجاه والشهرة يغلب على قلبه عند التدريس (كما ذكر عن نفسه في نفس الكتاب) وهذا أمر مناف للإخلاص. ثم لما اعتزل التدريس وقام بتزكية نفسه، زال عنه ما كان يجد وعاد للتدريس بروح جديدة، إذن هو لم يصب بالمرض النفسي إلا لتقصيره مع الله تعالى، ولم يزل عنه إلا بعد أن ارتقى في علاقته معه!
والحقيقة أن الطرفين محقان فيما يقولانه، فما ينبغي لأحدهما أن ينكر على الآخر...
فأما وجود التقصير فهذا لا يخلو منه بشر حتى الإمام الغزالي، ولله في خلقه شؤون في دعوتهم للتقرب إليه...
وأما الطريقة التي نبه بها الله تعالى الإمام الغزالي ليزداد قربًا منه، فهي إصابته بمرض يسمى اليوم: (الاكتئاب)!
وفعلًا: إن الحالة الشعورية التي يعيشها المكتئب، وشعوره بالذنب، وتفاهة الحياة، وكذلك شعوره بالعجر، وسيطرة فكرة الموت عليه، تقربه كثيرًا من الله تعالى فيما لو تم استثمار تلك المشاعر على نحو صحيح بربطها بالله تعالى وحكمته في ابتلاء خلقه...
غير أن هناك أمرًا: وهو أن الإمام الغزالي لم يكن عاصيًا شاردًا بالمقدار الذي يصف به الناس المريض النفسي اليوم، وذنبه في حب الجاه من الذنوب الشائعة التي قل أن يخلو منها أحد، فلماذا لا نرى الأكثرية الكاثرة من الناس مصابين بالاكتئاب الحاد، لا يقدرون على طعام ولا شراب؟ بل لماذا لا نرى جميع الكفار مصابين بالاكتئاب؟ ولماذا نرى المصائب تتنوع؟ ولماذا نسمع عن أناس رجعوا إلى الله بعد مرض عضوي، أو بعد دخولهم إلى السجن، أو بعد فقد عزيز عليهم، دون أن يصابوا بمرض نفسي؟؟
ولماذا نجد أن المصاب بهذه الأعراض التي أصابت الإمام الغزالي يتماثل للشفاء عند تناول الأدوية حتى إن بقي على عصيانه؟ وماذا لو وصل المكتئب إلى مرحلة صار يرفض فيها سماع النصح، وعجز التشجيع والدعم النفسي عن مساعدته؟ أيهما أفضل، أن نرميه محتقرين له، أم يتناول الأدوية حتى إذا عاد إليه نشاطه نصحناه وذكرناه بالله تعالى؟
كل هذه أسئلة أظن أنها ستبين الحقيقة للمنصف لو أجاب عليها، هذا إن كان فعلًا يريد أن يصل إلى الحقيقة ويتخلى عن عصبيته لقناعاته الموروثة، وإن كان يريد أن يتحرر من قول الناس: وجدنا آباءنا كذلك يفعلون!!
هذان المصطلحان هما اللذان يشكلان القسم الأكبر من الخلاف بين الأطباء والعامة، ولعل الوسواس، والقلق، والرهاب، لهم أيضًا حظ من الإنكار الخاص، (لكن دون الاكتئاب)، لما يُفسَرون به من اتباع الشيطان، والجزع الناتج عن قلة الاطمئنان بذكر الله تعالى، والالتفات إلى الخلق بدل الالتفات إلى الخالق...
ولهذا الكلام بقية تأتي في مقال آخر بإذن الله...
ويتبع >>>>>: أصول الخلاف بين النفسانيين وثقافة مجتمعاتنا (2)
واقرأ أيضًا:
وصمة المرض النفسي : ليست من عندنا!/ المسلسلات النفسية ووصمة المرض النفسي/ اعتذار إلى أساتذتي المرضى الطيبين/ تعتعة نفسية: المجنون لا يفعل مثل هذا!!!/ الطب النفسي الكيميائي
التعليق: بارك الله فيك أستاذنا الفاضل ..
حقيقة أنا في حياتي صادفت ناس كثيرون يتبنون الفكر الخاطئ عن الطب النفسي والأطباء ..
ويرون أن هذا المجال مجرد كذبة وأن المريض لو التزم بالدين ما أصيب بأي مرض .. وإذا ذهب أي شخص إلى الطبيب النفساني ذهب في خفية وتستر على أمر وكأنه يرتكب جريمة ..
أستاذ توفيق أنا استأذنك في نقل هذا المقال إلى منتديات ومدونات أخرى مع ذكر صاحب المقال والمصدر كنوع من نشر العلم والقضاء على الجهل بارك الله فيك وجعل عملك في ميزان حسناتك