كان من المفاجئ بالنسبة للكثير من الإسرائيليين أن تنشر الصحف البلغارية مطلع الشهر الجاري صورة يظهر فيها رئيس الوزراء البلغاري (بويكو بورويسوف) مع رئيس جهاز (الموساد) الإسرائيلي (مئير دجان) في مكتب (بورويسوف) في العاصمة صوفيا، فقد جرت العادة ألا يتم توثيق اللقاءات والأنشـطـة التي يقوم بها رئيـس (الموسـاد) في زياراتـه لدول العالم، ولكن ومع ذلك فإن هناك شعور عارم بالرضا يسود دوائر صنع القرار في تل أبيب لنتائج هذه الزيارة، وما تلاها من زيارات لدول البلقان. الجولة التي قام بها (دجان) في عدد من الدول البلقان وضمنها بلغاريا مثَّلت بالنسبة للنُخب الإسرائيلية الحاكمة نافذة فرص استراتيجية كبيرة ونادرة، مما دفع كلاً من رئيس الوزراء الإسرائيلي (بنيامين نتنياهو) ووزير خارجيته (أفيغدور ليبرمان) للطلب من مراكز الأبحاث التابعة للأجهزة الاستخبارية ووزارة الخارجية إعداد دراسـات شـاملـة حول كيفيـة اسـتثمار الطاقـة الكامنـة في تعاظم حجم العلاقات بين (إسـرائيل) ودول البلقان، وتحديداً اليونان وبلغاريا في أعقاب التدهور الشـديد الذي طرأ على العلاقات بين (إسـرائيل) وتركيا الذي تلا أحداث "أسطول الحرية" التي قتل فيها سلاح البحرية الإسرائيلي تسعة من المتضامنين الأتراك الذين كانوا في طريقهم لفك الحصار عن قطاع غزة.
وكما يقول وزير الخارجية الإسـرائيلي (أفيغدور ليبرمان) فإنه يتوجب على (إسـرائيل) العمل بسـرعـة فائقـة لمحاولـة تعويض ما خسـرتـه من مزايا بتراجع التحالف الاسـتراتيجي مع تركيا، وعلى رأس ذلك تعزيز العلاقات مع دول البلقان. ويُشير (ليبرمان) إلى إن الخسائر الإسرائيلية الناجمة عن تراجع التحالف مع تركيا تتمثل في توقف تركيا عن منح (إسرائيل) التسهيلات العسكرية، وعلى رأسها السماح لطائرات سلاح الجو الإسرائيلي بالتدرب على الطيران في أجواء تركيا الواسعة، بالإضافة للتعاون الاستخباري الوثيق الذي كان يربط الأجهزة الأمنية في كل من أنقرة وتل أبيب، علاوة على توقف تركيا عن فتح مجالها الجوي أمام الطيران المدني الإسرائيلي، إلى جانب خسارة الخزانة الإسرائيلية عدة مليارات من الدولارات سنوياً جراء تراجع تركيا عن إبرام صفقات شراء السلاح الإسرائيلي، وتوجه أنقرة لمصادر تسليح أوربية وروسية.
خسـارة (إسـرائيل) هذه المزايا يأتي في وقت حرج جداً بالنسـبـة لصُناع القرار في تل أبيب، فـ (إسـرائيل) التي تضع في حسـابها إمكانيـة قيامها بقصف المنشـآت النوويـة الإيرانيـة معنيـة الآن وأكثر من أي وقت مضى باسـتغلال المجالات الجويـة لدول أخرى ليتدرب الطيارون الإسـرائيليون على هذه المهمـة، وفي ظروف طبوغرافيـة تُشـبـه إلى حد كبير الظروف الطبوغرافيـة لإيران. وبعد إغلاق نافذة الفرص التركيـة، فإن (إسـرائيل) وجدت ضالتها في عدد من دول البلقان التي بادر بعضها لعرض خدماتـه على (إسـرائيل) مقابل الحصول على تعويض اقتصادي.
ويكشف الصحافي الإسرائيلي (باراك رفيد) في صحيفة "هارتس" النقاب عن أن رئيس الوزراء البلغاري (بورويسوف) نفسه هو الذي زار (إسرائيل) وطلب الاجتماع مع كل من (نتنياهو) و(دجان) وعرض عليهما تقديم خدمات، وتحديداً فتح المجال الجوي أمام الطيران الإسرائيلي للتدريب، بالإضافة (بورويسوف) للتعاون الأمني والاستخباري مع (إسرائيل). ويُشير (رفيد) إلى أن بلغاريا تأمل في المقابل أن توافق (إسرائيل) على تطوير قدراتها في مجال التقنيات المتقدمة، بالإضافة إلى إقناع السياح الإسرائيليين بالتوجه لبلغاريا بدلاً من تركيا، مع العلم أن الأخيرة كانت البلد الأكثر تفضيلاً في العالم بالنسبة للسياح الإسرائيليين.
وقد لمست (إسرائيل) توجهات مماثلة من قِبل اليونان؛ حيث أشارت صحيفة "هارتس" إلى أن اجتماعاً سرياً عُقد في موسكو بين (نتنياهو) ورئيس الوزراء اليوناني (يورغوس بباندريو) على هامش زيارة الأخير لروسيا، حيث تم الاتفاق على فتح المجال الجوي اليوناني أمام الطيران الحربي الإسرائيلي للتدريب، حيث أن صِغر مساحة (إسرائيل) يجعل من الصعب جداً على الطيران الإسرائيلي أن يتدرب على تنفيذ مهام قتالية معقدة، تضطر الطائرات فيها إلى قطع مسافات كبيرة.
وهناك مؤشرات على أن دول البلقان الأخرى أبدت مؤشرات "إيجابية" تجاه التعاون مع (إسرائيل)، وتضم هذه الدول: رومانيا ـ التي فتحت مجالها الجوي بالفعل أمام (إسرائيل) ـ، صربيا، مونتنيغرو، مكدونيا، وكرواتيا. ولا خلاف على أن العوامل الاقتصادية ليست العوامل الوحيدة التي أقنعت دول البلقان بالتعاون مع (إسرائيل) واستعدادها لتعويضها عن النقص الناجم عن تراجع مظاهر التعاون الاستراتيجي مع تركيا. ويُشـير (رافيد) بشـكل خاص إلى العوامل التاريخيـة والثقافيـة والدينيـة؛ حيث أن معظم هذه الدول تُكن مشـاعر العداء لتركيا لأنها وقعت تحت الحكم التركي المباشـر لأكثر من خمسـة قرون، أثناء عهد الخلافـة العثمانيـة، بالإضافـة إلى تنامي "الإسـلامفوبيا" في أوروبا والتي جعلت الكثير من النُخب في أوروبا تشـعر بتضامن مع (إسـرائيل) في مواجهتها العالم الإسـلامي، وضمنه تركيا. ولا يخفي السفير الإسرائيلي في صوفيا (نحجال جانلر) تأثير الإرث التاريخي والثقافي في دفع دول البلقان للتعاون مع (إسرائيل)، ومسارعة (إسرائيل) لاستغلال نافذة الفرص هذه بكل قوة.
وتؤكد محافل في وزارة الخارجية الإسرائيلية أنه في كل ما يتعلق باليونان فإن المؤسسة الأمنية والعسكرية اليونانية مارست ضغوطاً كبيرة على المستوى السياسي للتعاون مع (إسرائيل) بعد توتر العلاقات بينها وبين تركيا، بسبب الصراع المتواصل بين الدولتين الجارتين حول مستقبل جزيرة قبرص، في نفس الوقت فإن الأزمة الاقتصادية التي عصفت باليونان مؤخراً أقنعت حكومة (ببناندريو) بالبحث عن بديل آخر في التعاون الاقتصادي مع (إسرائيل). وكما كشفت صحيفة "هارتس" فإن تطور العلاقات بين (إسرائيل) واليونان وجد تعبيره بشكل واضح وجلي في الكيمياء الشخصية بين كل من (نتيناهو) و(بباندريو)، حيث أنهما يُجريان إتصالات هاتفية بشكل أسبوعي، وهو ما جعل الأخير يُكلف وزيره (يونانب) بالتفرغ لتطوير العلاقات مع (إسرائيل)، في حين كلَّف (نتنياهو) نائب وزير الخارجية (داني أيالون) بنفس المهمة.
وفي هذا السياق زار كل من نائب وزير الدفاع الإسرائيلي (متان فلنائي) ومدير الدائرة السياسية الأمنية في وزارة الدفاع (عاموس جلعاد) أثينا لتحديد ملامح التعاون الاستراتيجي بين الجانبين، حيث تم الاتفاق على أن يكون عام 2011 عام التعاون الاستراتيجي بين الجانبين، وفي مؤشر على الأهمية الكبيرة التي تحتلها العلاقات مع اليونان فقد حرصت (إسرائيل) على تعيين دبلوماسي كبير وخبير بارز في مجال العلاقات الدولية وهو (آرييه مكيل) سفيراً في أثينا.
وقد وجد الإنقلاب في علاقات (إسـرائيل) مع اليونان تعبيره في أنماط تصويت اليونان في مجلـس الأمن؛ حيث أن المندوب اليوناني أصبح يُصوت بشـكل تلقائي ضد أي قرار ينتقد (إسـرائيل)...!!!
الذي يدفع (إسـرائيل) لاسـتثمار كل هذه الطاقـة والموارد في تطوير العلاقات مع دول البلقان ليـس فقط تراجع مسـتوى العلاقات الاسـتراتيجيـة مع تركيا، بل خشـيـة تل أبيب أن يتحول هذا البلد بشـكل واضح وصريح إلى طرف معادي (لإسـرائيل). وفي (إسرائيل) يرون أن هناك ما يُبرر هذه المخاوف، حيث تعتبر دراسة أعدها مجلس الأمن القومي الإسرائيلي حول مستقبل العلاقات مع تركيا أن تعديل العقيدة الأمنية للدولة التركية تطور بالغ الخطورة، حيث أشارت العقيدة الأمنية الجديدة لتركيا بشكل واضح إلى (إسرائيل) كإحدى الدول التي تُثير المشاكل بالنسبة لأنقرة، في حين تم إخراج سوريا من دائرة الدول التي تُشكل تهديداً للأتراك، في حين لا تعتبر هذه العقيدة البرنامج النووي الإيراني تهديداً على تركيا، وهذا يُعتبر مؤشراً على الوجهة الجديدة لتركيا في عهد حكم "حزب العدالة والتنمية" بزعامة (طيب رجب أردوغان).
ويولي الإسرائيليون اهتمام كبير لما جاء في كتاب "العمق الاستراتيجي" لمؤلفه (أحمد داود أوغلو) وزير الخارجية التركي الذي يعتبر أن مصلحـة الدولـة التركيـة تتمثل في إنهاء جمع مشـاكلها مع دول الجوار، في حين يتحدث رئيس الدبلوماسية التركية بشكل سلبي عن (إسرائيل) ويتوقع أنها ستزول عن الخارطة بعد أن تتحول إلى دولة ثنائية القومية. ويرون في (إسرائيل) أن الرياح الجديدة التي تهب على تركيا أقوى من أن تسمح بوقف التدهور الحاصل في العلاقات بين الجانبين، سيما مظاهر الضعف الكبير التي باتت تعتري مكانة الجيش التركي، سيما خلال العامين الماضيين، والتي وصلت ذروتها في حملات الاعتقال الواسعة التي طالت عدد كبير من كبار قادة الجيش الذين اتُهموا بتدير محاولة للانقلاب على حكم "حزب العدالة والتنمية".
ومن التطورات التي حدثت في تركيا وتُسبب في حالة قلق هائلة في دوائر صنع القرار في تل أبيب هو تعيين (راكان فيدان) كرئيس جديد لجهاز المخابرات التركي، وهو الذي تدعي (إسرائيل) أنه مُقرب من الإيرانيين. وقد عبَّر عن هذا القلق بشكل نادر وزير الدفاع الإسرائيلي الذي قال خلال جلسة لكتلة حزب العمل النيابية في الكنيست أن (إسرائيل) أطلعت المخابرات التركية على معلومات استخبارية بالغة السرية والحساسية، وأن هناك خوف من أن تقوم المخابرات في عهد (فيدان) بتسريب الأسرار الإسرائيلية لدول معادية وتحديداً إيران، مما يُسبب حرج كبير لصُناع القرار في تل أبيب.
تعتمد (إسـرائيل) في علاقاتها الجديدة والمتطورة مع دول البلقان على قاعدة "عدو العدو صديق"، وهي بالتالي تحاول اسـتغلال حالـة العداء التاريخيـة والثقافيـة المسـتشـريـة بين تركيا ودول البلقان من أجل تعزيز العلاقات مع هذه الدول في كل المجالات لتحقيق مصالحها الاسـتراتيجيـة، ولتعزيز مكانتها في أي صراع مسـتقبلي قد يندلع مع تركيا..!!
واقرأ أيضاً:
وعد بلفور فلسطيني/ الاستبداد في خدمة الموساد/ الكيان الصهيوني ويهود العالم/ الاحتفال بالكشف عن العملاء في ميزان المصلحة