مصر.. تونس.. الجزائر.. الأردن.. لبنان.. السودان
"أيها الوطن الجميل، كل هذه الأرض الممتدة من محيط عقبة إلى خليج أبي ذر، كل هذه الأرض لنا... للعرب جميعاً، وهذه الصحراء الجميلة كانت للفرسان وللشعراء وقبلهم للأنبياء، قبل أن تتحول إلى محطات بنزين، وقبل أن يتم رسم خرائطها بأصابع أعدائها، فالأمة لا تتحالف إلا مع ذاتها، ولا تنتصر إلا لهذه الذات، وكل تحالف سواه مهزوم بعاره وثرائه، خالد محادين".
مظاهر الاكتئاب في المجتمع المصري، كاكتئاب العرب في الخليج عنف وقتل وغلاء وديكتاتورية، هيمنة حزب واحد وفشل وإفلاس، كذب وافتراء.. إما خافوا منه ذلك العفريت الذي طلع ويطلع لهم صباح مساء، أو أنهم قد تعاملوا معه بحذر أو بأناقة شديدة (خاصة النخبة منهم المثقفين والفلاسفة والشعراء - Elite ) لكن الجميع ـ تقريباً ـ حولوه إلى مضغة يجترونها كما جمالهم السائرة في تيه الصحراء، تحمل بضاعتهم ومصائبهم، تَمّرهم ونساءهم، ذهبهم. وأطفالهم، حميرهم العرجاء وسياراتهم الفارهة وكروشهم الممتدة أمامهم.
صار اكتئابهم خبزهم اليومي وقهوتهم الصباحية، إذاعتهم، تلفزيونهم، شتيمتهم، جورنالهم اليومي، فضائيتهم المفضلة، (إخبارية كانت أم راقصة).
لاكوه في أفواههم وحركوه بألسنتهم، خَزّنوه كالقات في تجاويفهم الفمية والنفسية ليمضغوه ويتخدروا بعد سويعات، ثم ينامون ويلهون بعد سويعات أخرى، خزنوه في صدورهم وقلوبهم، لينشع في قفصهم الصدري ويرتشح في رئاتهم، ينمل أحاسيسهم ويخدرهم أو صار كالعلكة اللبنانية لزوم الدلال وسط الجحيم أو اللبان الأمريكاني (التشكيلتس) في الأكشاك البسيطة أمل الفقراء والمحرومين من التذوق، بصقة الأغنياء في أزمنة الحروب.
يعشعش المرض كميتافور قوي في (مجتمعنا المصري)، ليس فقط السل والبلهارسيا والتهاب الكبد الوبائي، لكن كذلك الذبحة الصدرية والسكر وارتفاع ضغط الدم ومؤخراً أنفلونزا الطيور والخنازير وبالطبع الاكتئاب، وهي كلها نماذج تاريخية، لكن مَنّ يعُطي (المرض) معناه ومفهومه كفعل عقابي ومن وجهة نظر ميننجر المحلل النفسي والذي رأى المرض شيئاً مختلفا فلم يره كمصيبة من مصائب الدنيا لكنه رأى أن المريض الضحية مسئول إلى درجة كبيرة عما فعل هو بحياته وبنفسه من (إهمال، استسلام، عبث..)
كيف يمكن فهم ما يحدث الآن؟ هل إنه حقاً (مجتمع) أم أنها (مجتمعات.. عربية)، تلك المتناثرة في الخليج والأردن ولبنان، تونس، والعراق ومصر والجزائر!.
نحاول يأساً وأملاً فهم هذا العربي في مجتمعاته وأزماته، في غربته، يعاني من تناقض وجداني خطير يتمثل في ضدين (ذاته المتضخمة) أنا (كويتي)، أنا (سعودي)، أنا (غني)، (مصر أم الدنيا)، (اليمن السعيد)، (عراق الأمجاد)، (السودان الطيب)، (تونس الخضراء)، و(الجزائر ـ بلد المليون شهيد)، ودونية تتمثل في أميته، جهله، فقره، مرضه، عجزه، قلة حيلته، ضعفه وعدم خروجه من دائرة المستهلك لكل شيء أمريكي وصيني.
إذن فهل نحن أمام الاكتئاب المصري؟ أم اكتئاب المصري؟ أم الاكتئاب في المجتمع العربي؟
في الحقيقة أن المسألة ليست إطلاقاً لعباً بمفردات تلك اللغة السخية، بقدر ما هي محاولة للوصول إلى المعنى الدفين لعل وعسى! هل هو اكتئاب فردي أسري، حياتي، إنساني، مجتمعي، بيئي، سياسي، يغذيه القهر ويأكله الاستبداد، يفتته الظلم الذي يترعرع في ظل أنظمة مترهلة وفاسدة تحكمها آلية الإنكار denial .
نعتقد أن المفصل يتعلق بالهوية الأساسية للعربي وعلاقته بدينه، بنفسه، بتحقيقه لذاته بإحساسه أنه مواطن مشارك وليس رعية يعولها الحاكم في العراق، لبنان، مصر، السودان، وفلسطين (شاب عراقي يُعاني من الذعر والهلع، ارتمى على الشيزلونج، قائلاً في أنين المُتعب المثخن بالجراح (كل ما أنام على سريري، أقوم مُتفزعاً خائفاً، أحلم ببيتنا، بأسرتي، أبكي مكتئباً بشدة، كابوسي هو حلمي، وحلمي هوا كابوسي، إذا نمت على الأرض في مكان بعيد كاللاجئين نمت في هدوء، وإذا عدت إلي فراشي عاد الكابوس الحلم الأمل الذي أعرف جيداً أنه لن يتحقق)... من خلال هذا الطرح الرمزي العميق يجسد هذا الشاب العراقي مأساة وطنه وشعبه، ويختصرها في حلم كابوسي كالأمل الوردي، وكأنها عملية تكوين عكسي في حيلتها، على العقل القواد للقلب العاشق للوطن، فيهجر الأنباء والأخبار، يطالع قنوات فضائية غنائية، لكنه لا يهرب من شريط رسائلها الـ SMS، وهي تنقل له وسط الطبل والزمر والرقص والأجساد العارية، صور الذبح والتفجير والدماء والأشلاء وبيت العائلة الذي صار أنقاضاً كالوطن.
ومن حلم الشاب العراقي إلى حلم شاب مصري في منتصف العشرينات (نفس عمر الشاب العراقي تقريباً ويعاود نفس العيادة النفسية بأعراض مماثلة وإن كانت مختلفة في أسبابها) "حلم غريب اتكرر كأن حادثة حصلت لي، كأن قطار أو عربية كبيرة داستني، بعدين الناس شالوني وحطوني في كيس بلاستيك وودّوني المشرحة، صحيت، لقيت نفسي في المشرحة، متخبط مليون تخبيطة، متقطع وبعدين متجمع تاني خد بالك المصريين أشطر ناس في تجميع المصريات والبني آدمين وكل حاجة - ولما قمت حسيت بحتة لحمة كبيرة قوي في بقي، باشوف إيه دي لقيتها لساني مقطوع وواقف يدوب على حتة، تقريباً نسيوا يحطوه مكانه؛
باتحرك قام اتقطع ووقع مِني، حاولت أتكلم، عايز أتكلم، نفسي أتكلم، عايز أصرخ... آه آه آه مش قادر ومش عارف أعمل إيه، عايز أنطق لكن مفيش لسان، وفضلت أصرخ وأصرخ آ آه مش قادر، لقيت نفسي غرقان ميّه، عرق مغطي كل جسمي، وأنا باعّيط، وصحيت في الآخر عرفت إنه كابوس، قلت الحمد لله، الحمد لله... (تعقيب وليس تفسير: حلم متكرر لشاب فقد والديه وتبعثر في زحمة الحياة في مصر، تمزق نفسياً واجتماعياً وكأنها تلك الحياة المصرية المعصرة قد قطعته ثم لمّته (الناس شالوني وحطوني في كيس بلاستيك وودّوني المشرحة ـ منتهي القسوة ومنتهي الحنيةّ).
تبدأ الحكاية في أفغانستان، أمر بورك من أمريكا ومصر والسعودية، وانتفض الشباب العرب يبحثون عن هدف غير ذلك المائع أو المنفي والبعثرة المتباينة الهدف والانتماء والمصالح في الساحة العربية، تلك البعثرة كما يحددها حيدر إبراهيم وحدت الدينيون لأنهم رفضوها، ولأنهم رأوا في التعددية أثراً تآكلياً corrosive على العقيدة، ومن هنا يجيئ فهم تقاطع المصالح وتضاربها بين قوى مثل حماس، فتح، الإخوان المسلون، والقاعدة.. خطورة الهوية الدينية هنا أنها تقوم على أساس نفي هوية الغير والغائها، أو كما يقول شايغن: "وإن أخطر الهويات على الإطلاق هي تلك التي لا تتحقق إلاّ على أنقاض الآخرين".
واقرأ أيضاً :
الشباب العربي وملامح ثورة جديدة / احتمالات التفسير النفسي.. لمهووس المعادي