ظللنا فترة طويلة لا نسمع إلا أخبارا سيئة حتى وصلتنا أخبار الثورة في تونس، فبعثت البهجة في النفوس والأمل في أنه من الممكن، رغم كل شيء، أن يجبر الشعب حكامه الظالمين على الفرار. لابد أن هذه الأخبار قد أثارت في نفس الوقت الرعب في نفوس الحكام المستبدين في كل مكان، إذ فوجئوا بأنه مهما كان جبروت قوات الأمن، فهناك حدود لما يمكن عمله إذا بلغ الغضب الشعبي حدا معينا. أما استدعاء الجيش للمشاركة في قمع الناس، فهو يفترض أن يرضى قادة الجيش بالتحول من حماية الشعب من عدوان خارجي، إلى حماية حفنة ضئيلة جدا من الناس من غضب الشعب، وهو ما لم يتصور الجيش التونسي أنه من الممكن أن يقوم به.
كانت المفارقة مذهلة بين ما حدث في تونس في الأسبوع الماضي وما حدث في البرازيل منذ شهرين، حيث تنازل رئيس محبوب للغاية (لولا دي سيلفا) عن ترشيح نفسه لفترة رئاسية جديدة، رفضا منه لفكرة احتكار شخص واحد للسلطة، فانتخب شعبه خليفة له سيدة تنتمي إلى نفس حزبه ومبادئه، وودع الشعب البرازيلي رئيسه العظيم بنفس الحب الذي استقبله به عند انتخابه، بينما اضطر الرئيس التونسي إلى الهروب هو وأسرته، واجدا صعوبة بالغة في أن يجد دولة واحدة في العالم تقبل أن تستضيفه، ولكن التونسيين لم يثوروا فقط ضد احتكارر السلطة، ولكنهم ثاروا أيضا ضد سياسة اقتصادية ظالمة لم تجلب النفع إلا لنسبة ضئيلة للغاية من الشعب.
إن الذي فجّر الثورة التونسية حادث مروع كان نتيجة مباشرة لهذه السياسة الاقتصادية شاب تونسي يحمل شهادة جامعية، فشل في العثور على وظيفة يتكسب منها، ففكر في أن يبيع الخضراوات على عربة في الشارع، فمنعه رجال الشرطة بحجة أو أخرى من الحجج المألوفة لدينا في مصر في تحرش رجال الشرطة بالفقراء من البائعين في الشوارع، فاستبد الغضب والحنق بالشاب، وسكب كمية من البنزين على جسمه وأشعل فيه النار، فمات محترقا أمام الناس في الشارع.
بطالة شائعة، خاصة بين المتعلمين، مع تجبر وتعنت من السلطة، أدت إلى فقدان الناس صوابهم فخرجوا إلى الشارع مصممين على تغيير النظام.
هذا الاقتران بين سياسة اقتصادية ظالمة وديكتاتورية الحكم ليس مصادفة بالمرة، إذ يستحيل في الحقيقة أن تسمح الديمقراطية بمثل هذه السياسة الاقتصادية، ولا يمكن استمرار هذه السياسة الاقتصادية في دولة فقيرة إلا في ظل الديكتاتورية. والمدهش أن المؤسسات الدولية التي تدعو الدول (المسماة بالنامية) إلى تطبيق هذه السياسة الاقتصادية الظالمة (دون التمييز الواجب بين ما يصلح لدولة وما يصلح لأخرى)، هي نفسها (والدول المسيطرة عليها) التي تدعو إلى الديمقراطية والشفافية واحترام حقوق الإنسان. هذا التناقض بين الدعويين مدهش حقا، ولكن غير المدهش هو أن هذه المؤسسات والدول الداعية لها، تبدي صبرا لا حد له على النظم الديكتاتورية التي تطبق هذه السياسة الاقتصادية، وتؤيدها وتدعمها سياسيا واقتصاديا، بحجة أن النظام السياسي أمر «داخلي» لا تستطيع التدخل فيه، بينما هي تعرف بالطبع أن هذا النظام السياسي وهذه السياسة الاقتصادية متلازمان، وأن أحدهما توءم الآخر.
هكذا تعودنا طوال العشرين سنة الماضية على أن نسمع الثناء العاطر على الأداء الاقتصادي التونسي من مختلف المؤسسات المالية الدولية: صندوق النقد والبنك الدولي والمنتدى الاقتصادي الدولي، وتصنيف أدائها الاقتصادي على أنه أفضل أداء في القارة الأفريقية كلها... إلخ.
وسبب هذا الثناء العاطر، أن السياسة الاقتصادية التي طبقت في تونس منذ أواخر الثمانينيات، أي منذ اعتلاء الرئيس المعزول للحكم، هي بحذافيرها توجيهات صندوق النقد الدولي لدول العالم الثالث، وهي نفس السياسة التي طبقتها معظم هذه الدول التي اضطرت لسبب أو آخر إلى تطبيق تعاليم الصندوق. وهكذا تنضم تونس إلى الدول التي شهدت ما يعرف الآن لدى المشتغلين بالتنمية بـ«أحداث الشغب الناتجة عن الصندوق» (IMF riots)، ولكنها في هذه المرة، ولحسن حظ تونس، تجاوزت مجرد الشغب إلى الثورة الشعبية التي تهدف إلى تغيير النظام بأكمله.
من المفيد أن نتذكر هذا ونحن نتأمل السياسة الاقتصادية المصرية وتطورها وآثارها، فنقارنها بما حدث في تونس لقد بدأ تطبيق هذه السياسة المسماة بسياسة «التكيف الهيكلي» (Structrual Adjustment) في مصر بمجيء حكومة عاطف صدقي في 1986، أي قبل عام من اعتلاء زين العابدين بن علي حكم تونس. فهذه السياسة عمرها الآن في البلدين ما يقرب من ربع قرن، ويوعد الناس بأنها سوف تحقق، إن عاجلا أو آجلا، الأهداف الاقتصادية المرجوة، ومن ثم كثيرا ما يشار إليها بأنها «سياسة الإصلاح الاقتصادي». وتتكون من العناصر الأربعة الآتية: تحرير التجارة الخارجية (استيرادا وتصديرا)، واتخاذ الإجراءات اللازمة لحفز الاستثمار الأجنبي على المجيء، وتحويل القطاع العام إلى خاص (الخصخصة)، وسحب يد الحكومة من التدخل في حرية السوق، فتترك الأسعار حرة (بما في ذلك سعر الصرف) ويخفض أو يلغي الدعم الممنوح للسلع والخدمات.
طبقت تونس هذه الطلبات بسرعة بينما طبقتها مصر ببطء، ومن ثم استحقت تونس ثناء الصندوق وغيره من المؤسسات الدولية، بينما حصلت مصر على ثناء مشوب بالتحفظ، وذلك حتى جاءت حكومة الدكتور نظيف في مصر منذ ست سنوات، فتسارعت خطوات الحكومة المصرية في تنفيذ طلبات الصندوق (بل وأظن أن هذا هو الغرض الأساسي من إحلال حكومة نظيف محل حكومة عاطف عبيد)، ومنذ ذلك التاريخ بدأت مصر تحظى من هذه المؤسسات بنفس عبارات الإعجاب التي حظيت بها تونس من قبل.
في البلدين حدث تحسن في المؤشرات التي يعلق عليها الصندوق أهمية ويقيس بها النجاح والفشل، بينما حدث تدهور في المؤشرات التي يتجنب الصندوق الكلام عنها، ولا يعيرها اهتماما في توزيع عبارات الثناء أو النقد: معدل نمو الناتج القومي يرتفع، ومعه متوسط الدخل، والاستثمارات الأجنبية تزيد. (حدث هذا في تونس في العشرين سنة الماضية وبدأ يحدث في مصر منذ ست سنوات). ولكن حدث التدهور الشديد في ثلاثة أمور لا يحب الصندوق أو المؤسسات المالية الدولية الحديث عنها إلا مضطرة وهي: زيادة البطالة، واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وزيادة انكشاف الاقتصاد أمام المتغيرات العالمية ومن ثم زيادة تأثره بما يحدث في الخارج من تقلبات.
كانت النتيجة أن تونس، بعد أكثر من عشرين عاما من تطبيق سياسة الصندوق، زاد الناتج القومي فيها بمعدل يفوق 5٪ سنويا (أي أكثر بنحو الخمس مما حدث في مصر)، ولكن زاد أيضا معدل البطالة بشدة فأصبح أكبر من معدل البطالة في مصر بنحو 50٪ (14٪ من إجمالي القوة العاملة بالمقارنة بـ9٪ في مصر، طبقا للإحصاءات الرسمية التي يرجح أنها أقل بكثير من الحقيقة في الدولتين). كذلك اتسعت بشدة الفجوة بين الأغنياء والفقراء، فأصبحت أكبر بكثير منها في مصر (أغنى 10٪ من السكان في مصر يحصلون على 8 أضعاف ما يحصل عليه أفقر 10٪ من السكان، بالمقارنة بـ13 ضعفا في تونس)، طبقا لإحصاءات الأمم المتحدة عن سنة ٢٠٠٧/٢٠٠٨، والأرجح أن الحقيقة أسوأ هنا أيضا بكثير، إذ إن كثيرا مما يحصل عليه الأغنياء لا يُرى ولا يُحسب.
كذلك كان أثر الأزمة العالمية الأخيرة التي بدأت في 2008 أسوأ على تونس منه على مصر، فانخفض معدل نمو الناتج القومي في البلدين من نحو 5٪ خلال العشر سنوات السابقة على الأزمة إلى 3٪ في 2009 في تونس وإلى نحو 4٪ في مصر.
هناك إذن من الأرقام ما يمكن أن يفسر لماذا قامت ثورة شعبية في تونس قبل أن تقوم في مصر. ولكن هذه الأرقام لا تقول بالطبع كل شيء، خصوصا إذا تعلق الأمر بالسؤال: متى تقوم الثورة؟ فالبطالة وحجم الفجوة بين الفقراء والأغنياء ليسا إلا سببين من أسباب السخط والثورة. هناك إلى جانب ذلك، درجة الفساد، وهنا أيضا لم يصل الأمر، فيما يبدو، إلى ما بلغه في تونس، فقد نشر بعد هروب بن على أنه جمع خلال سنوات حكمه ثروة تزيد قيمتها على 13 ألف مليون دولار، تتراوح بين ودائع نقدية في البنوك الأجنبية، وملكية شركة طيران في تونس، وملكية عمارات فخمة في باريس، وفنادق في البرازيل والأرجنتين... إلخ. فضلا عن أن زوجته تسلمت من البنك المركزي التونسي قبيل الهروب طنا ونصف الطن من الذهب قيمتها 63 مليون دولار.
الديكتاتورية وتقييد الحريات سبب آخر للثورة، وهنا نجد أيضا لدى التونسيين، فيما أظن سببا أقوى مما لدى المصريين، فنظام بن علي في تونس كان أشد قسوة وأكثر غلظة في معاملة المعارضين وفي تقييد الحريات من النظام الحالي في مصر.
ولكن هناك أيضا أسبابا أخرى للسخط تتفوق فيها مصر على تونس. فزين العابدين بن علي لم يحاول توريث الحكم لابنه مثلما يحاول النظام المصري منذ عدة سنوات، وهناك أيضا درجة الفقر نفسه. فالفقر إذا تجاوز حدا معينا يولد شعورا لدى الفقير بأنه ليس لديه ما يفقده، وأنه مهما كانت خطورة الاحتجاج وعقوبة التمرد، فلن تكون أسوأ كثيرا مما هو فيه. وهنا لدى المصريين أسباب أقوى للسخط مما لدى التونسيين، فمتوسط الدخل في مصر أقل من نصف مستواه في تونس، ونسبة الواقعين تحت خط الفقر في مصر (أقل من دولارين في اليوم) تبلغ سبعة أضعاف حجمها في تونس (44.6٪ من السكان في مصر مقابل 6.6٪ في تونس).
أسباب السخط كثيرة إذن، والأرقام تشير في اتجاهات متعددة والذي يحسم الأمر في النهاية ليس هو حاصل جمع وطرح، ولكن أمورا نفسية يصعب قياسها، كقوة الشعور بالغضب، ودرجة عناد أصحاب السلطة، ناهيك عن مدى تأييد قوى خارجية للمتمردين في الداخل.
واقرأ أيضاً:
الحالة النفسي سياسية / إذا الشعب يوما أراد الحياة / حكاوي القهاوي