لم يكن غريبا أن تتصدر أنباء الانتفاضة التونسية الواجهة الإعلامية في عالمنا العربي، ولا أن تبادر السلطات العربية علي تنوع مشاربها إلي تأكيد أننا "نحن مختلفون عن تونس" وهي مقولة صحيحة بالتأكيد ولكن دون عزلها عن سياقها العلمي. لقد أعادني ذلك الجدل إلي تذكر مقرر يعرفه دارسو علم النفس تحت عنوان "الفروق بين الأفراد والجماعات".
وكان جوهره هو استحالة وجود فرد يتطابق مع الآخر تماما من حيث الخصائص البدنية أو القدرات العقلية أو السمات النفسية أو الاجتماعية، واستحالة وجود فرد يختلف عن بقية البشر تمام الاختلاف. فالقول بأن ثمة ما يجمع البشر جميعا قول صحيح علميا، وكذلك القول بأن لا مجال لتطابق بين فرد وآخر.
ولا تختلف تلك الحقيقة العلمية في جوهرها بالنسبة للفروق بين الجماعات حيث لا توجد جماعتين متطابقتين تماما في كافة الخصائص الاجتماعية أو النفسية أو التاريخية أو الاقتصادية، كما أنه لا توجد جماعة تختلف عن بقية البشر تماما.
ومن ثم فكما أن هناك قوانين علمية تحكم سلوك الأفراد وتمكننا من التنبؤ بذلك السلوك بقدر يزيد أو يقل من الدقة تبعا لمساحة الفروق الفردية، فالأمر لا يختلف كثيرا بالنسبة للجماعات من حيث وجود قوانين علمية تخضع لها حركة الجماعات وتفاعلاتها. ومن هنا فإن القول بأن الحالة المصرية تختلف تماما عن الحالة التونسية، لا يقل خطأ عن القول بأن حالتنا تتطابق تماما مع الحالة التونسية أو مع أية حالة أخري.
حالتنا تختلف بالفعل عن الحالة التونسية من حيث عدد السكان وتنوعهم واتساع الرقعة السكانية وكذلك في ارتفاع سقف النقد للسلطة سواء في إعلام القطاع الخاص أو "الإعلام القومي" فضلا عن ساحات الإنترنت والتويتر والفيسبوك، وتختلف حالتنا أيضا في أن الاعتصامات والمظاهرات الاقتصادية والسياسية بل والدعوة إلي العصيان المدني ليست بالغريبة علينا خاصة في الحقبة الأخيرة.
نحن نختلف إذن عن تونس في كل ذلك، ولكن بالمقابل يجمعنا بتونس كما يجمع العديد من دول العالم وجود ظواهر الشكوى من البطالة والغلاء والفساد إلى آخر تلك المشكلات، ولا يمكن أن نتصور متعطلا سعيدا ببطالته وآخر شقي بها، ولا فرق بين مشاعر من يكويهم الغلاء أو الفساد في أي مكان في العالم. يجمعنا بتونس أيضا وببقية الدول العربية خاصة ذات النظام الجمهوري أن شفافية ونزاهة الانتخابات وما يترتب عليها من إجراءات لتداول السلطة تحيط بها الشكوك رغم وضوح النصوص الدستورية القانونية ورغم تصريحات المسئولين.
الانتفاضة التونسية إذن لا تطرح علينا أجندة جديدة تجعلنا نكتشف ما كان مغيبا عنا من مشاكل، ولا هي تطرح أسلوبا جديدا في الاحتجاج لم نجربه من قبل. ولكن الجديد فيما جري في تونس يتلخص في عدة أمور لعل أهمها أن ما جرى لم يكن استجابة لدعوة من حزب أو مجموعة من الأحزاب السياسية بل بدأ باحتجاج محدود علي البطالة والشعور بالقهر، واجهته السلطة بإطلاق الرصاص الحي علي المتظاهرين، مما أدي إلي انتشار الاحتجاجات وصمود المتظاهرين في الشوارع وتوالت أحداث الانتفاضة.
تري هل يمكن والأمر كذلك أن يزعم أحد أننا لم نتأثر بما جري في تونس؟ أليس منطقيا ومفهوما أن تخشي السلطة تكرار ما حدث؛ إذا لم يكن حرصا علي الذات فحرص علي الوطن؟ أليس منطقيا ومفهوما أيضا أن تبدو الانتفاضة التونسية مغرية للعديد من تنظيماتنا السياسية المعارضة لدعوة الفقراء والعاطلين للنسج علي منوالها فلعل وعسي؟
إن الخوف من الخطر إذا ما بلغ بقيادة جماعة ما مبلغه فإنها تجد نفسها حيال عدد من الاختيارات: تجد نفسها في البداية حيال المفاضلة بين غواية إنكار الخطر وتجاهله والتعالي عليه ماضية في سبيلها مستمتعة بطمأنينة قد تكون وقتية زائفة؛ وبين الاعتراف داخليا علي الأقل بوجود ذلك الخطر موضوعيا، وفي هذه الحالة الأخيرة تتخذ ما تراه مناسبا من وجهة نظرها لدرئه:
كأن تبادر مثلا بتأكيد قبضتها الحديدية علي الشارع، أو أن تبادر باتخاذ خطوات استباقية لتلبية بعض المطالب الجماهيرية الملحة والمؤجلة، أو أن تتراجع عن اتخاذ مثل تلك الخطوات خوفا من تفسيرها علي أنها دليل ضعف يغري بمزيد من الاحتجاجات، أو أن تبادر بإغلاق تلك النوافذ الإعلامية أو علي الأقل إجبارها علي تخفيض سقفها النقدي.
لعلنا نلاحظ أن السلطة في بلادنا فد اتخذت مؤخرا عدة قرارات بتعيين عاملين جدد خاصة في وزارتي التعليم والبترول، وأن السقف النقدي الإعلامي ما زال كما عهدناه قبل ما جري في تونس. ولكن تبقي قضيتان:
أولا: تري هل يمكن التشكيك في أن ذلك السقف النقدي المرتفع للإعلام المصري تعبير حقيقي عن مكسب ديمقراطي للشعب المصري؟ والقول كما يردد البعض بأنه مجرد وسيلة سلطوية لتلهية الجماهير وإتاحة الفرصة أمامها للتنفيس؟ وللحقيقة فقد عرف التاريخ نماذج عديدة لنظم حاولت أن تلهي شعوبها عن مشكلات الخبز والحرية بافتعال معارك وهمية قد تتخذ طابعا ديماجوجيا وطنيا أو قوميا أو حتى رياضي؛
ولكن التاريخ لم يعرف قط فيما نعلم أن سلطة تلهي شعبها بدفعه للحديث عن محظورات فتكون آنذاك أشبه بمن يلعب بالنار؛ فالحديث العلني عن الفساد والفقر والبطالة لا يؤدي بحال إلي شيوع حالة من الهدوء والرضي عن السلطة بل العكس هو الصحيح.
ثانيا: إن قرارات تعيين العاملين التي صدرت مؤخرا لا تقضي علي مشكلات الفقر والبطالة. ولكن تري هل تكون بداية لإعادة النظر في معالجة مشكلات الجماهير؟ هل تكون مبررا لتعطيل خطط التنمية التي تعاني أصلا من التباطؤ؟ هل يمكن تفسير المضي في طريق المزيد من الاستجابة للمطالب الشعبية باعتباره مؤشرا علي ضعف السلطة وخوفها؟ أم أن يسود التفسير العلمي والصحيح للأمر باعتبار أن استجابة السلطة لمطالب الجماهير بل وانحناءها علنا أمام تلك المطالب شرف لا يدانيه شرف؟
واقرأ أيضاً:
تونس: من يقطف ثمار ثورة الشعب!/ إذا الشعب يوما أراد الحياة/ التجربة التونسية غير قابلة للتصدير لمصر