اليوم الثلاثاء 25 يناير 2011 وقد بدأت المظاهرات السلمية على مستوى محافظات مصر منذ الظهر تقريبا.... ومن الواضح أنني لم يكن ينقصني لأبرأ من يأسي الطويل المقيم من المصريين إلا أن أعرف أن أعداد الذين خرجوا في هذا اليوم قدرت أول ما قدرت بعشرات الآلاف وفي مدن عديدة من مصر..... مجرد سماع هذه الأخبار ومشاهدة مقطع صغير على الإنترنت لمظاهرة ميدان التحرير وهي في بداياتها أو ساعاتها الأولى كان كفيلا بتحطيم كل ما بناه اليأس من مصر بداخلي على مدى ما يزيد عن العقدين انحطت فيهما مصر كما لم تنحط من قبل على مر التاريخ،.... بعد أقل من ساعتين إذن من بدأ التظاهر وبمجرد بداية رفع مقاطع الفيديو المصورة من قلب الأحداث حدث تغير هائل في رؤيتي للناس ولنفسي.... المصريون ما يزالون أحياء وإحباطك إلى انتهاء هكذا قلت لنفسي.
ولم يكد يمضِي يوم واحد وبدأت أجساد مصابي وشهداء المصريين تتساقط في معركة أظنها الأشرف والأعنف ستكون في تاريخهم، والله وعملتها مصر عملوها المصريين..... وبقدر الفرح أجد الخوف يكبر داخلي أخاف على الناس وأنا أعلم أنهم يواجهون من لا يرحمون.. وأقول في نفسي لو أن تونس ضحت بتسعين شهيدا فمصر ستضحي بأضعاف هذا الرقم.
لم أستطع مواصلة عملي الإكلينيكي اعتذرت لكل من كانت مواعيدهم بعد المغرب يوم الثلاثاء 25 يناير 2011 وقررت السفر إلى القاهرة... إذ المفترض أن لدينا مؤتمرا إقليميا للجمعية العالمية للطب النفسي World Psychiatric Association ينعقد في فندق سميراميس في ميدان التحرير نفسه الذي أعرف أنه ممتلئ بالمتظاهرين والمعتصمين فهل سيكون ممكنا أن نصل إلى مكان المؤتمر؟ وهل سينعقد فعلا أم أن أمورا ستجد؟ لم أكن أدري لكنني كنت أود التواجد في القاهرة لتأكدي من أنها ستكون المكان الأهم في تحديد مآلات الأحداث.... في البداية كنت ناسيا أنني ليس لدي في مكان مبيتي بالقاهرة جهاز تليفزيون أي ليست لدي الجزيرة الإخبارية.... ولكنني عندما تذكرت ذلك قلت لنفسي عندك إن شاء الله إنترنت.
أبكي بحرقة... أبكي عندما أسمع الأنباء وأرى من الجزيرة ما يبكيني..... ويبكيني؟؟ من مثلي يبكي من يا بلد؟ وما الذي يا ترى يبكيني؟ هل هو شعوري بأني لا أفعل شيئا أو أن ما أفعله أقل كثيرا مما يجب؟ هل هو حبي لمصر أو لهؤلاء الناس؟ هل هي الفرحة؟ هل لأن ذلك يذكرني بمظاهرات محافظة الشرقية التي شاركت فيها أثناء سنوات الدراسة الجامعية؟ خاصة تلك التي رافقت أزمة المجند الشرقاوي سليمان خاطر -نسأل الله له الرحمة والمغفرة-، هل لأنني ظلمت الشخصية المصرية طويلا بقدر ما طال خنوعها واستسلامها؟ هل لأن فرحتي ودهشتي ممتزجتان بالخوف والقلق؟ أي نوع من المشاعر الجياشة هذا الذي يبكيني؟
أحد المشاهد التي لا أنساها لأبي رحمة الله عليه هي بكاؤه في البيت أمام شاشة التلفزيون أثناء نقل مشاهد جنازة جمال عبد الناصر.... وفضلا عن أنها كانت المرة الأولى والأخيرة التي أرى أبي فيها باكيا فإنني وجدت بكاءه حسب فهمي في ذلك الوقت متناقضا مع أبي الذي أعرفه عضوا تكررت مرات اعتقاله بسبب انتمائه لجماعة الأخوان المسلمين وحين سألت أمي بارك ليَ الله فيها قالت: "أبوك يبكي على حال البلد يا بني" فهل أنا ورثت البكاء في مثل هذه المواقف عن أبي يرحمه الله؟.
كلما رأيت مشاهد المتظاهرين وكلما سمعت هتافاتهم أشعر أني أقول ما يقولون: الشعب يريد إسقاط النظام منتهى الخفة والبساطة في التعبير، الشعب يريد إسقاط النظام وأنا معهم لا أريد هذا النظام؟ لماذا أبقى في البيت عاجزا؟ أنا أرى أنه الحق نعم هذا هو الحق فلماذا لا أتحرك مع من يتحركون... لماذا لا أرى دورا لنقابة الأطباء.... هل ما يزال التعقل والتمهل ممكنا هل ما يزال هناك من الناس من يراه اختيارا؟
عظيمة هي السويس أو محظوظة ربما..... في حرب العاشر من رمضان 1973 كانت تتقدم مصر ومدن القناة، وواكب ذلك تطورٌ اجتماعي فني أنتج لونا من الفن الغنائي اشتهر باسم "السمسمية" وها هي اليوم تتقدم مصر أيضًا في أيام غضبها... لابد أنهم تعلموا كثيرا من خبرة حرب الشوارع، ويبدو أن اندفاع السلطات الأمنية إلى محاولة القمع المبكر كان غباءً منقطع النظير،..... السويس مشتعلة بحق وأتمنى أن نتمكن من دعم أهلها حتى لا يستفرد بهم النظام الأمني،..... أوائل شهداء أيام الغضب كانوا في السويس وهو ما سيعني الكثير لأهلها بالتأكيد....كما يعني كثيرا بالنسبة للنظام الذي طالما تشدق بأنه بطل حرب 1973 فهل بهذه الطريقة يتعامل مع أبطال الحرب.
في المساء فكرت في الذهاب إلى ميدان التحرير.... إلا أنني عرفت أن طرق الوصول إلى ميدان التحرير كلها مغلقة... بالمناسبة يهمني هنا أن أذكر بأن التغيير الذي أجرته الحكومة في اسم هذا الميدان فأنت إذا طفت بالميدان ونظرت إلى جدران البنايات فيه ستجد أكثر من لافتة كتبوا عليها ميدان أنور السادات .... وهو التغيير الذي حدث على مستوى اللافتات في الميدان نفسه وكذلك تسمية محطة مترو الأنفاق محطة أنور السادات بدلا من محطة التحرير..... هذا التغيير لم يتجاوز ذلك أي لم يتجاوز اللافتات، فرغم إحداثه مباشرة بعد اغتيال الرئيس السادات أي منذ ثلاثة عقود تقريبا وحتى يوم الغضب والناس ما يزالون يسمونه ميدان التحرير ووكالات الأنباء كلها تسميه ميدان التحرير... –ولا أعرف الوضع في وسائل الإعلام الرسمية المصرية فأنا لا أشاهدها بالتأكيد منذ بدأت الأحداث (إلا إذا رغبت في الضحك على شر البلية)- ....
ظللت أتابع أخبار مصر من خلال الإنترنت....... وقرأت عن أعداد المتظاهرين المعتصمين في ميدان التحرير... وارتفعت المعنويات في السماء.... وددت أن أقول لكل من كان يعرف سابق رأيي في المصريين أو "الحُسنيين" كما كنت أسميهم وددت أن أقول له أنا كنت على خطأ، يبدو أن الإنسان المصري ما يزال يود رفع رأسه وإن شاء الله سيرفعها... حاولت كثيرا أن أتصل بابن عبد الله ولم أفلح لأن محموله كان خارج الخدمة كل مرة بشكل أثارني كثيرا... إلى أن رأيت له تعليقا على الفيسبوك أشار فيه إلى أنه كان مع المعتصمين في ميدان التحرير قبل ساعة من كتابته ذلك التعليق ولكن محموله كان ما يزال مغلقا... ولما لم تكن عندي قناة الجزيرة ولا أنا أستطيع الوصول إلى قلب الأحداث فقد قررت أن أنام حتى الصباح لأنضم إليهم متحججا بأني ذاهب لحضور مؤتمر دولي وذلك قبل أن أعرف أن الأمن هاجم المتظاهرين بالقنابل المسيلة للدموع وخراطيم المياه مصرا على تفريقهم.
يتبع : .............. ساخن من مصر: أيام الغضب الأربعاء
واقرأ أيضاً:
الأخ المدني وأخية المـيري/ التجربة التونسية غير قابلة للتصدير لمصر/ رأس مصر العربي