ساخن من مصر: أيام الغضب الثلاثاء
في مساء الأربعاء 26 يناير ثاني أيام الغضب المصري كانت لي جلسة ضمن جلسات المؤتمر عن طب نفسي الطوارئ والكوارث، كنت أنا منسقها وأحد المتحدثين فيها، وكان معي أ.د عادل الشعاعي رئيس جلسة، ودكتور محمد المهدي ودكتور راشيل ديسوزا من أستراليا.... تأخر الضيف الأسترالي وكانت جلستنا قد بدأت قبل موعدها بحوالي خمس دقائق بدأ المهدي أولا فتكلم عن مفاهيم وتعريفات الأزمات والطوارئ والكوارث ثم شرح لنا الجوانب المعرفية للكوارث على اختلاف أسبابها، وبيَّن أن ما يجري في الميدان المجاور –يقصد ميدان التحرير- ما يزال في مرحلة الأزمة التي تحتاج تدخلا عاجلا للحل، ثم بين التأثيرات المضاعفة عدة مرات للكوارث في البلدان النامية،....
وبعد حوالي 10 دقائق من بداية المهدي دخل الضيف الأسترالي راشيل ديسوزا وبالتالي أصبح هو المتحدث التالي وبدأ يشرح عن بعض المفاهيم العامة المتعلقة بمناجزة الكوارث فضلا عن رؤيته الخاصة لاضطرابات المواقف التمزقية Disruptive Situational Disorders ورؤيته للقلق النفسي المصاحب لحدوث الكوارث على أنه اضطراب قلق مختلف وقائم بذاته يسميه القلق بالتمزُّق Anxiety by Disruption ..... وقد أحسن الرجل الدفاع عن رؤيته، وأخيرا عندما حان وقتي لأتحدث عن المناجزة النفس اجتماعية للكوارث رأيت أن أقدم بعضا فقط من شرائح محاضرتي لكي لا أكرر شيئا مما قاله المتحدثان السابقان... ثم قدمت الابن الدكتور أحمد عاطف فايد الذي كان أحد أعضاء فريق الإغاثة النفسية الذي سافر إلى دارفور سنة 2009 ضمن أنشطة شعبة طبنفسي الطوارئ والكوارث في اتحاد الأطباء النفسانيين العرب والتي أشرف برئاستها، ثم تقدم أخي د. أحمد عبد الله ليحكي لنا خبرته مع ضحايا تفجير كنيسة القديسَيْن بالإسكندرية..... وكانت الجلسة موفقة بفضل الله تعالى.
في حوالي الثامنة والربع مساء نزلت وزوجتي إلى ميدان التحرير.... وكان غريبا أن الميدان يكاد يكون فارغا من الناس العاديين... ليس خاليا فقط من المتظاهرين وإنما من المارة عموما، بينما هو ممتلئ بجنود الأمن المركزي بلباسهم العسكري الأسود، وإلى جوارهم مجموعات من أصحاب الزي المدني الذين لا تحتاج لا ذكاءً ولا سرعةَ بديهة لتعرف -بمجرد النظر إلى وجوههم- أنهم من الفرق الخاصة – فرق البلطجية- التي يستعين بها الأمن لإرباك المتظاهرين أو إحداث التخريب ليمثل ذريعة للأمن فيبطش بالمتظاهرين.... فالشرطة عندنا في مصر الفرعون نوعان نوع عسكري بزي أسود ونوع بلطجي يرتدون أي ثياب مدنية وتجد سيماهم على وجوههم من أثر البلطجة!
سبب نزولنا إلى الميدان كان الرغبة في شراء العشاء.... إلا أننا فوجئنا بأن الكردون الأمني الذي يحيط بمربع ميدان التحرير من الداخل يمنع دخول المحال كلها بلا استثناء حتى المطاعم... وعندما رأت زوجتي مطعمي "كنتاكي" و"هارديز" مضاءا الأضواء على عكس غيرهما قالت أعرف أنك تقاطع هؤلاء لكن ليس أمامنا الآن غيرهم، قلت لها سنحاول الوصول لهم وعندما أردنا المرور من جانب إحدى عربات الأمن المركزي منعنا اثنان من "بلطجية" الشرطة قائلين ممنوع.... تركتهما واتجهت إلى أحد الضباط الواقفين قلت له: أود الدخول إلى "كنتاكي" فقال لي ادخل فذهبت مرة أخرى لأمر وأنا أحسب أن الضابط نافذ الأمر إلا أن رد البلطجي كان لا علاقة لي بالضابط ممنوع اذهب من الجهة الأخرى..... كان علي أن أسير حوالي 100 متر لأدخل من الناحية الأخرى إلا أنني فوجئت هناك أيضًا بأنه ممنوع... عندها قلت للضابط لماذا هو ممنوع فنظر لي باستغراب وقال ألا تعرف لماذا هو ممنوع؟ قلت له أرى الميدان خاليا من أي مشكلات فكان رده أنت لا تعرف شيئا وعليك أن تسمع الكلام فقلت له بالمناسبة قلبي يتظاهر فهل تستطيع منعه؟! وكان رد فعله الأولي الابتسامة إلا أنه تدارك نفسه فابتسمت له واتجهت إلى الطريق الوحيد الذي سمح لنا بالمرور منه متجهين إلى ميدان باب اللوق.
عدة مكالمات جاءتني من ولديَّ ومن أبناء أخواتي يسألون فيها عن الأوضاع في شوارع القاهرة، هم في السنوات الدراسية بين المرحلة الإعدادية والثانوي، كلهم متحمسون يسألون ويسألون ولا أدري سرا لشعوري بأنني لو قلت لأحدهم لا تخرج للتظاهر فإنه لن يطيعني..... حقيقة أنا لا أستطيع أن أقول لأحد منهم لا تخرج للتظاهر فأنا أشعر أن تعبيراتي وتعليقاتي الغاضبة من تصرفات وقرارات ومواقف الحكومة المصرية على مدى السنوات الماضية سواء لهم أو لغيرهم كان لها بالتأكيد دور في حالة الغضب التي تجتاح نفوس الشباب فكم مرة أنكرت عليهم ما اعتبرته عدم استبصار بحقيقة المستوى الذي تدنت له مصر مقارنة بما كانت عليه في طفولتنا ومراهقتنا, لا يمكنني اليوم أن أقول لابني أو ابن أختي أو غيرهم لا يوجد ما يستدعي التظاهر، لا يمكن أن أقول لهم أنكم فجأة أصبحتم لكم كرامة فلا داعي للتظاهر.
فارق كبيرٌ بيننا جيل الستينات والسبعينات من القرن العشرين وبين أولادنا اليوم فبينما تربينا على الخوف من الشرطة وليس من أصحاب النشاط السياسي القديم من جيلنا من لم يتعرض لتنكيل الشرطة والمباحث إما شخصيا أو من خلال الزملاء الذين تمت استضافتهم لبعض الوقت في أقسام الشرطة أو سجونها، ومن الواضح أن الصورة مختلفة الآن عند جيل الشباب من عدة أوجه لعل أهمها هو معرفتهم بأن يد الشرطة ليست مطلقة في البطش كما كانت أيامنا، وحتى لو تهور أحدهم اليوم وبطش بأحد المتظاهرين أو المعتقلين فإنه يعرف أنه لن ينجو من المحاسبة فالآن توجد هيئات عديدة على مستوى العالم تفضح أي تجاوز للشرطة، ولعل في القصص المتكررة لانتهاكات الشرطة المصرية لحقوق الإنسان، وما تؤول إليه من عقابٍ للشرطي –أحيانا لا دوما-، أو من فضائح للشرطة تحاول وزارة الداخلية التنصل منها بعقاب مرتكبيها –أيَضا أحيانا-، ولعل في دعاوى جمعيات حقوق الإنسان المدنية وتكرار السماع عن تقاريرها السنوية لعل في كل هذا ما يعطي أولادنا ثقة أكبر في قدرتهم على الفعل والتغيير تُترجم في شجاعتهم وإقدامهم وإصرارهم، وحقيقة فإن كل ما يحد اليوم من بطش الشرطة بالمتظاهرين كله لم يكن يحدث أيامنا ولا كان يخطر لأحدنا على بال.
بعد حوالي الساعة من انتهاء جلستنا في المؤتمر تكلمت مع ابن عبد الله وفكرنا في أن نحث زملاءنا في المؤتمر على إصدار بيان عن المؤتمر يبين اتخاذنا موقفا معينا ما يجري وإعطاء نصيحتنا كمتخصصين في الطب النفسي لأجل ضمان استمرار المسار السلمي للاحتجاجات والاعتراضات، إلا أنه بدا من الواضح أن الوضع ما يزال لا يسمح بذلك..... فقررنا أن نحاول استلهام خبرة زملائنا فيما يتعلق بالدعم النفسي للأشخاص في المظاهرات سواء كانوا من الناس أو من الشرطة.... وكانت واحدة من الناشطات لا أذكر من اسمها إلا الاسم الأول "هبة" قد اتصلت بي تطلب مني بعض النصائح عن كيفية الدعم النفسي للمتظاهرين وعن الكيفية التي يحيدون بها أفراد الأمن أو يكسبونهم لصفهم قدر الإمكان، وهذا ما قررت أن أفعله في اليوم الثاني للمؤتمر.... طلبت منها أن ترسل لي بريدا إليكترونيا لأرسل لها عليه ما نصل إليه من إرشادات ونصائح.
أتمنى ألا تنتهي الوقفات الاحتجاجية والتظاهرات حتى تتم الاستجابة لطلبات الناس، صحيح أنا في منتهى الخوف عليهم من أن يتمادى الأمن في بطشه بهم أو أن يستغل انتفاضاتهم أصحاب المصالح السياسية، لكنني والحمد لله ليس بي جبن وإنما ضعف جسد أتمنى أن يسامحني الله فيما فعلته فيه حتى كبر قبل الأوان وأصبحت أعيش عجوزا قبل الخمسين، لكن هذا لا يمكن أن يمنعني من إعلان تأييدي لحركة الناس العفوية تلك، ونقول في نفس الوقت للجهات الأمنية ما اتفقت أنا وابن عبد الله على إعلانه على مجانين:
من منطلق تخصصنا كأطباء نفسانيين، نؤكد على أهمية سماع صوت الشعوب أو الجماهير في مثل هذه الظروف الدولية الضاغطة، والأزمات المحلية والدولية المتلاحقة،.... ونشدد على أن التعامل الخشن مع التحركات السلمية من شأنه أن يفجر ردود أفعال غير رشيدة، ونكرر تأكيد موقعنا مجانين لحق الشعوب في التعبير السلمي عن رأيها، ونشدد على أهمية معاملة هذا التعبير بأقصى درجات الحكمة والتجاوب.
يتبع .............. : ساخن من مصر: أيام الغضب الخميس
واقرأ أيضاً:
الأخ المدني وأخية المـيري/ التجربة التونسية غير قابلة للتصدير لمصر/ رأس مصر العربي