لا يوجد أدنى شك في أن معركة ميدان التحرير التي جرت يوم الأربعاء الثاني من نوفمبر 2011 م للتنكيل بشباب ثورة 25 يناير قد تم التخطيط لها على أيدي خبراء في علوم مختلفة أمنية ونفسية, وسأتحدث هنا عن الجانب النفسي في هذا الحدث, فمثلا بداية الهجوم على الميدان بواسطة الخيول والجمال هو مشهد قد يبدو بدائيا صادرا عن مجموعة من سكان العشوائيات والبلطجية, ولكنه من ناحية أخرى مشهد يثير الفزع في نفوس مستقبليه, إذ هو شيء غير معهود وغير متوقع في مثل تلك الظروف, وهو يحدث خللا فيما يسمى بالافتراضات الأساسية لدى الإنسان, تلك الافتراضات التي تعني أن الحياة تسير وفق منطق معقول, وأن ثمة تسلسلات مفهومة للأحداث, وأن الحياة الإنسانية والكرامة الإنسانية غالبا مصانة, وأن هناك حدودا يقف عندها المعتدي ويصعب عليه تجاوزها لأسباب أخلاقية أو قانونية أو دينية, وأن الإنسان ينظر إلى نفسه نظرة إيجابية ويتوقع من الآخرين نفس النظرة.
تلك هي الافتراضات الأساسية القابعة في أعماق تكويننا النفسي في الأحوال العادية, وهذه الافتراضات حين تنتهك بواسطة أحداث مفاجئة يحدث ارتباك شديد في الجهاز النفسي وتحدث حالة من الهلع لدى الإنسان وربما يصاب بما يسمى "التفاعل الحاد للصدمة" أو "كرب ما بعد الصدمة", وهذا ما خطط له المهاجمون للمتظاهرين في ميدان التحرير وتلخص ذلك في الدخول بالخيول والجمال التي يحمل أصحابها السيوف والخناجر والعصي, ثم تلا ذلك جحافل من البلطجية وأرباب السجون يقذفون المتظاهرين بالحجارة من كل جانب.
هذا المشهد المختلف والمفاجئ, وظهور نوعية من البشر لا تعرف أخلاقا ولا يردعها قانون وليس لها سقف معروف في العدوان يجعل كل الاحتمالات الخطرة قائمة في أقصى درجاتها وهذا ما قصده المخططون على أمل أن تحدث حالة رعب شديدة في صفوف المتظاهرين على اعتبار أنهم كلهم أو غالبيتهم من الطبقات المتعلمة ومن الطبقات الاجتماعية الأرقى ولم يسبق لهم مواجهة مثل هذه النوعية من البلطجية واللصوص وأرباب السوابق, وأنهم سيفرون فورا تاركين الميدان خاليا للمهاجمين, وهنا ينتصر المخططون في المعركة دون كلفة سياسية داخلية أو خارجية على اعتبار أن ما حدث هو صراع بين فريقين من المتظاهرين فريق يؤيد النظام وفريق يعارضه, وأن الأمن التزم الحياد حفاظا على الأرواح.
ولا ينكر أحد أن المرابطين في ميدان التحرير تعرضوا لحالة من الهلع والرعب للحظات (حسب رواية بعض شهود العيان) ولكنهم استطاعوا استعادة تماسكهم سريعا ووقفوا يواجهون هذا الهجوم المرعب على الرغم من كونهم شباب مهذب راق ومتحضر ولم يتعودوا على حرب الشوارع أو مواجهات البلطجية والعشوائيين والمجرمين. ما الذي أعطاهم تلك القوة وتلك الجرأة التي مكنتهم من الصمود ساعات طويلة أمام الهجمات تأتيهم من كل جانب؟, وما الذي حافظ على كل ذلك حتى مع شعورهم بأنهم أصبحوا محاصرين من كل الجوانب (وهذا مصدر رعب إضافي) وعلى الرغم من تطوير وسائل الهجوم واستخدام كرات النار وزجاجات الموليتوف, وعدم معرفتهم بحجم المهاجمين والإمدادات التي تصلهم في كل لحظة؟, وكان المؤكد أن وتيرة الهجوم تتزايد بلا سقف معروف, وأن الوسائل تتزايد وتتنوع, وأن الحصار يشتد, وأن الهدف هو قتل وجرح أكبر عدد من المتظاهرين والمعتصمين في ميدان التحرير, وأن الجيش والشرطة لا يتحركان لإنقاذهم على الرغم من وجودهم على مد البصر, وأن سيارات الإسعاف يتم منعها من محاولة إنقاذهم, بل هم يتشككون في سيارات الإسعاف لأن لديهم تجارب قريبة في سيارات إسعاف تحمل مسلحين يروعون الناس.
والجواب هو تلك الروح الجديدة التي سرت في هؤلاء الشباب وانتقلت للشعب المصري بدرجات متفاوتة, لقد حدث تحول هائل في نفوس هؤلاء الشباب, فمنذ عدة أسابيع أو شهور كانت الصورة النمطية أن المصريين تجمعهم صفارة وتفرقهم عصا, وكان هذا يتأكد –للأسف- في مواقف كثيرة, وقد نجح الأمن فعلا في تفريقهم وإجلائهم من الميدان مؤقتا بالقنابل المسيلة للدموع وخراطيم المياه بعد منتصف ليل الاثنين 25 يناير؛
أما الآن فلا لقد تغير الحال, هاهنا شباب تعرض لأقصى درجات الرعب التي تفنن فيها خبراء أمنيون وخبراء نفسيون, ومع ذلك صمدوا وكسروا جحافل المهاجمين وبقوا في الميدان يرفعون مطالبهم المشروعة في وطن آمن وحر وعادل وجميل, فتحية لهؤلاء الأبطال الذين نفخر بأنهم أبناؤنا ونعتذر لهم عن نظرتنا الخاطئة السابقة لهم على أنهم شباب مترف مرفه لا يتحمل الصعاب أو المسئوليات, وسوف يأتي اليوم الذي يفتح لهم التاريخ صفحاته ليسطروا بأنفسهم تلك الملحمة البطولية الرائعة, وتحية للشهداء الذين قضوا قبل أن يروا ذلك اليوم وهنيئا لهم فقد رحلوا عن وطن مخطوف مضطرب إلى دار الأمن والسلام.