في الوقت الذي كانت تدور فيه أحداث ثورة 25 يناير 2011 م في مصر, كانت هناك عقول على الجانب الآخر تدير معركة نفسية ضخمة ومؤثرة تلخصت أدواتها في التالي:
1 – عنصر المفاجأة حين سمح للمظاهرات بالخروج تحت حماية الأمن ثم فجأة وبعد منتصف ليل اليوم الأول للحدث يتم هجوم مباغت بعدد هائل من القنابل المسيلة للدموع وخراطيم المياه العملاقة والرصاص المطاطي والحي, وقد أحدث ذلك صدمة للمتظاهرين الذين كانوا يستعدون للنوم بعد يوم حافل وشاق, وفعلا نجحت الصدمة في تفريقهم وإخراجهم من الميدان ليعودوا إليه بعد ذلك في الأيام التالية ويتشبثون بالبقاء فيه مع كل المحاولات لإخراجهم.
2 – الترويع للشعب, وذلك بالانسحاب المفاجئ لقوات الشرطة بالكامل من كل المدن والقرى على طول مصر وعرضها بشكل يثير الريبة والفزع ويفتح كل الاحتمالات لفقدان الأمان, ومن المعروف أن الأمان هو أحد أهم الاحتياجات النفسية للإنسان, وهو يلي مباشرة حاجته للمأكل والمشرب والمأوى (الاحتياجات الأساسية). وقد زاد من الترويع فتح السجون المتزامن وخروج عدد هائل من المجرمين والبلطجية والخارجين على القانون, واستيلائهم على عدد كبير من الأسلحة من حراس السجون, وزاد الأمر سوءا تدمير وإحراق الكثير من أقسام ومراكز الشرطة وتسرب أسلحتها للمجرمين الذين شكلوا مجموعات سلب ونهب وسطو مسلح, ولم يوقف ذلك الترويع إلا الخطوة العبقرية السريعة التي تكونت فيها اللجان الشعبية للحفاظ على الأمن وتنظيم شئون الحياة.
3 – التجويع, وذلك من خلال عدم صرف المرتبات والإصرار على إغلاق البنوك (حتى بعد عودة الأمن للشوارع بعد غياب ثلاثة أيام متصلة), وافتعال أزمة نقص البنزين ونقص المواد الغذائية وغلاء أسعارها.
4 – التهديد بالفوضى والدخول في المجهول, وهذا يرعب الناس كثيرا ويجعلهم في حالة ترقب مؤلم حيث لا يعرفون ماذا سيحدث بعد لحظات.
5 – قطع التواصل الإلكتروني من خلال وقف الإنترنت وقطع الاتصالات على المحمول, والذي نتج عنه تقطيع أوصال شبكة التواصل الاجتماعي وما يستتبعه من شعور بالوحدة والخوف.
كل هذه الوسائل والخطوات وغيرها كانت تهدف إلى اللعب على احتياجات الإنسان الأساسية, خاصة وأن الشعب المصري كان يعيش على الحافة وكثيرون منهم يحصلون على أرزاقهم يوما بيوم وقد هددهم الجوع فعلا نظرا لتوقف الأعمال وتوقف الرواتب, وهو شعب لم يتعود على افتقاد الأمان بهذا الشكل المفاجئ, وكان المخططون لذلك والمنفذون له يسعون إلى إيجاد جو نفسي مشحون بالقلق والخوف يدفع الناس للبحث عن مصدر الاستقرار الذي يعيد إليهم احتياجاتهم المفقودة من الغذاء والأمن والتواصل الاجتماعي, وأن يكونوا في لهفة لعودة الحياة الطبيعية التي ألفوها بأي ثمن, وأن يقارنوا بين ما هم فيه من كرب مع الثورة الجديدة مع ما كانوا فيه من ظروف قبلها فيكتشفوا أنهم كانوا أفضل على الرغم من شكاواهم الكثيرة قبل ذلك.
والإنسان حين يصاب بهلع ويعيش في المجهول يتولد لديه اشتياق طبيعي للعودة إلى أقرب نقطة استقرار وإشباع كان عليها من قبل حتى ولو لم ترض طموحه, وهذا ما حدث فعلا للشعب المصري أو لطوائف كثيرة فيه خاصة بعد الخطاب الثاني للرئيس مبارك والذي أعطى فيه بعض الوعود ولمح فيه إلى العودة للاستقرار والحياة الطبيعية, هنا شعر كثير من الناس بالفرحة وانفراج الأزمة وشعروا بالأمل في العودة للحياة الطبيعية مرة أخرى في ظل وضع ألفوه ثلاثين عاما حتى ولو تألموا منه أو ضاقوا به أو جاعوا معه فالجوع النسبي –في نظرهم – أفضل من الجوع المطلق والدخول في المجهول, لذلك خرج بعض الناس يهتفون لمبارك ويعتذرون له في اليوم التالي للمظاهرات المليونية التي خرجت في سائر المدن المصرية تطالب بإسقاط النظام وإسقاط الرئيس.
لقد نجح الرئيس في استمالة الناس إليه من خلال خطاب يحوي بعض الوعود التي توحي بانفراجة جزئية للموقف وعودة للاستقرار ومن خلال بعض العبارات العاطفية مثل رغبته في أن يموت على أرض مصر التي عاش عليها ودافع عنها. وقد نجح النظام فعلا في أن يكسب جولة من خلال الظروف النفسية التي وضع الشعب فيها على مدى أيام الثورة ثم كلل ذلك بخطاب يراعي جوانب نفسية لدى الشعب المصري مثل احترام الكبير, وعدم الرغبة في إذلال عزيز, وقيمة العرفان بالجميل لمن قدم جميلا حتى لو أساء بعد ذلك.
وخرجت مظاهرات مؤيدة لمبارك تكونت من عدة طوائف, الطائفة الأولى خرجت تلقائيا وعفويا مدفوعة بمشاعر طبيعية تجاه الرئيس وراغبة في عودة الحياة الطبيعية, والطائفة الثانية جيشها الحزب الوطني من عمال المصانع والشركات والهيئات الحكومية نقلوهم بوسائل نقل حكومية وأعطوهم مكافآت أو حذروهم من عقوبات, والفريق الثالث كان مجموعة من البلطجية والجياع الذين استحضروا من المناطق العشوائية ومن السجون ليقوموا بدور مدفوع الأجر لترويع الجانب الآخر من المظاهرات المناوئة للنظام, وهذا الفريق الثالث يعتبر دائما الذراع الأمني السري للحزب الوطني يستخدمه في الانتخابات لتزويرها ويستخدمه في مواجهة المعارضين.
وفي وقت محدد تراجع فريقين ليستكمل فريق البلطجية مشواره في ميدان التحرير في أعمال عنف وترويع هائلة ضد الشباب المرابط في الميدان لتكتمل الحرب النفسية في كل الاتجاهات. وقد خسر النظام تعاطف الناس معه بالهجمة الشرسة للبلطجية على المرابطين في ميدان التحرير, وأثبت الحزب الوطني فشله الدائم في التعامل مع الأحداث حيث أبطل كل تأثير لخطاب الرئيس مبارك, إذ جاءت الرسالة لتقول بأن الوعود الرئاسية قد تم نسفها في اليوم التالي مباشرة وأن النظام مازال يمارس تلك الأساليب غير الشريفة في التعامل مع المعارضين.
كان هذا هو جانب النظام في التأثير النفسي في الأحداث, وعلى المقابل كان الجانب المعارض يحاول مواجهة آثار تلك الضغوط النفسية أملا في الوصول إلى نقطة النهاية التي يسعى إليها وهي تغيير النظام, وقد نجح هذا الفريق أيضا في الصمود حتى الآن بل واستفاد من أخطاء النظام في محاولاته لإحداث الضغوط النفسية, وعلى الرغم من الصمود الواضح لمجموعة الشباب الذين صنعوا الثورة إلا أن الصمود الشعبي العام تحوطه بعض الشكوك نظرا لتفشي الأمية ونقص الوعي وقابلية الجماهير للاحتواء والاستهواء والاستلاب. وفي كلمات قليلة نقول بأن الشباب قام بالثورة بعقله ووجدانه وجوارحه وشاركه قطاع كبير من الشعب, ولكن بعد عدة أيام حدث انقسام على المستوى الشعبي للأسباب التي ذكرناها, ومازال الحدث جاريا ومفتوحا لكل الاحتمالات على مسارات القوى المختلفة المؤثرة في الحدث.