ساخن من مصر: جمعة الغضب!
يوم السبت 29 يناير 2011 هو خامس أيام الغضب المصرية.... بدا وكأن نصائح جمال التركي يؤخذ بها.... التجربة التونسية وعاها المصريون جيدا فلم تبدأ تظاهرات ميدان التحرير تأخذ حجمها الحقيقي إلا بعد الثانية ظهرا وكأنما يقول المتظاهرون للناس بعد أن تنهوا أعمالكم تعالوا للتظاهر بما يعني أن الحياة اليومية المتواصلة يمكن أن تستمرَّ مع التظاهر اليومي...
هذا اليوم كان ولابد أن تبين الناس فيه رفضها الكامل لاستخفاف مبارك بتطلعاتهم وتضحياتهم وبالفعل كان ذلك حيث اتسع نطاق التظاهرات وتضاعفت أعداد المتظاهرين في كل صوب وحدب...... فرض حظر التجوال من قبل الحاكم العسكري أي محمد حسني مبارك نفسه!..... بدا ذلك مضحكا! في البداية فرض في القاهرة والإسكندرية والسويس.... وبعد قليل انتشرت شائعة أنه فرض في كل مدن الجمهورية،.... ثم نفي الخبر.... ثم بدا من المضحك أن أحدا لم يسمع كلام الفرعون المخلوع وكذلك أن أحدًا لم يتابع تطبيق حظر التجول من عدمه وبالتالي ظلت الشوارع حركتها كسابق عهدها لم تتغير.... كان ذلك في رأيي كافيا لأن أموت إذا كنت أنا الحاكم العسكري للبلاد. لكن مبارك أصلب كثيرا من أن يحس شيئا كهذا!
بدا أول النهار يوم السبت 29 يناير 2011 هادئا في الشرقية حتى أنني خرجت في الصباح سيرا على قدمي إلى عيادتي عندي أمل كنت ما أزال في أنني سأتمكن من الوصول إلى الإنترنت ونشر ما أكتبه الآن على مجانين.... لكن فاجأني ما لم أكن أحب أن أرى من احتراق أحد الأكشاك التي ظهرت منذ عدة سنوات في ميدان جمعية المحافظة على القرآن الكريم أو ميدان العبور وكتب عليه خدمات جماهيرية،.... وحقيقة لم أبحث جيدا ما هو ولا عرفت لماذا أنشئ ولكن خمنت أنه يتبع مجلس المدينة.... وعرفت مرة أنه يمكن عبره استخراج الرقم القومي..... ولا أدري لماذا كنت أشعر أنه مكان يراقبون منه الناس أو يجمعون عنهم معلومات بحيث يتمكنون من حد حريتهم.... هكذا كان إحساسي وإحساس كثيرين ضد كثير من الإنشاءات التي تنشئها الحكومة من تلقاء نفسها، فسوء النية مفترض في كل ما تفعله الحكومة منذ سنوات في مصر.
للأسف لم تكن هناك أخبار أسوأ من أعرف أن أختا لي مع أسرتها أطلقت عليهم القنابل المسيلة للدموع وهم عائدون من القاهرة في الدقائق الأخيرة من يوم جمعة الغضب وهو ما لم أعرفه إلا مساء السبت وعرفت لماذا ما أزال ما بين الساعة والساعة أشم رائحة تحرق أغشية أنفي وعيني.... فعلا هم يضربون عبر المدينة كلها والقنابل أكثر كثافة مما نتخيل ويبدو أن أثرها يدوم أطول كثيرا مما عرفناه في السابق أي في ثمانينيات القرن العشرين.
وإن هي إلا سويعات وتوافدت أخبار انتشار التظاهرات أكثر وأكثر في كل مكان في مصر وحولنا في مدينة الزقازيق وبدأت رائحة الغاز المسيل للدموع تدخل علي من شباك عيادتي وجهزت الكمامة التي أعطاها لي زميلي مصطفى السعدني وأنا معه في جدة في فترة الخوف من أنفلونزا الخنازير ولم أتذكرها عندما رأيت الكعبة المشرفة فبقيت في جيبي وها هي الآن في درج مكتبي..... أنهيت مريضا ومريضة وقمت نظرت من معمل التحاليل الطبية المجاور لعيادتي فرأيت جحافل الأمن المركزي السوداء النظامية وعناصر الشرطة السرية "البلطجية" وعناصر الشرطة العادية واقفين كردونا أمنيا حول المبنى الكبير لمديرية الأمن....
لم أكن أرى أي تجمعات للمواطنين لكنها ربما كانت في شوارع رئيسية بعيدة وتريد الوصول إلى مبنى مديرية الأمن.... وأخيرا رأيت مشهدا لم أره منذ أيام تظاهرات سليمان خاطر في مصر سنة 1985/1986 وهو مشهد جندي الأمن المركزي وهو يطلق القنابل المسيلة للدموع.... بدا لي المشهد غريبا ومختلفا عما كان سابقا فقد كان المعتاد حسبما أعرف أن يطلق الشرطي واحدة أو أكثر من هذه القنابل على تجمعات الناس.. إلا أن ما يحدث الآن أمامي غير ذلك فهو يطلق القنابل الواحدة تلو الأخرى عشوائيا وفي كل الاتجاهات التي تمثل منافذ يمكن أن يدخل منها الناس إلى مبنى مديرية الأمن وبالتأكيد –وهو ما كنا نسمع بآذاننا ما يؤكده- فقد كان آخرون مثله يطلقون في كل الاتجاهات.... لهذا السبب كانت الرائحة تعم مدينة الزقازيق والقرى المجاورة لها وكنت ترى الناس ممسكين بالمناديل البيضاء في كل شارع وبعضهم يقول لك هذا المنديل مبلل بالخل المخفف امسح وجهك به لتتخلص من أثر القنابل اللعينة.....، للأسف الشديد فإن رد قوى الأمن بهذه الطريقة جعلني خائفا بشدة مما يمكن أن يحدث في النهاية كرد فعل عندما تخور قوى الأمن فيعجزون عن قمع الناس وعن الدفاع عن مديرية الأمن؟ فعلا أخاف أن يحدث ما نسمع عن حدوثه في عدة محافظات إضرام النار في مديرية أمن كذا.... أو في قسم كذا..... من المؤسف أن استفزاز المتظاهرين بهذا الشكل يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه فهل يا ترى يا قوى الأمن تعقلون.
لم أستطع الانتظار طويلا في عيادتي كنت أود المشاركة وأشعر بالخزي إذا تواجدت في مكان غير أماكن التظاهر، لأجل ذلك كان علي التحايل على العاملين معي في العيادة فالكل يرفض نزولي لأن صحتي لا تتحمل في رأيهم.... والحقيقة أنني أجدني أزداد صحة وقوة وانشراحا كلما وقفت مع المتظاهرين وكلما سمعت هتافهم الشعب يريد إسقاط النظام والذي تغير بعد الخطاب الاستعباطي الذي ألقاه الفرعون المخلوع إلى: الشعب يريد إسقاط الرئيس لضمان أن يفهمه الفرعون وينهي ما اعتاد عليه من استعباط للناس....... أنا شخصيا أعالج اكتئابي ويأسي الطويل من مصر ومن مستقبل أولادنا فيها.... حقيقة ليس اكتئابي وحدي وإنما هو اكتئاب كثيرين في مصر يمكن جدا أن يعالجه التظاهر وقد بدأت بالفعل من يوم الأربعاء أتصل بكل المكتئبين الذين عاينتهم في عيادتي خلال الشهر الماضي والذين كان اكتئابهم خفيف أو متوسط الشدة ولم أصف لهم عقاقير وإنما اتفقنا على العلاج معرفيا وطلبت منهم أن يعتبروا المشاركة في المظاهرات جزءًا من العلاج.... ومن المبشر أن بعضهم اتصل بي وقال لي بعد يوم واحد من المشاركة أو يومين: ليست جزءًا من العلاج يا دكتور هذا علاجنا!
أخيرا وبعد فرض حظر التجوال –الذي لا ولم يلتزم به أحد وظل حظرا على ورق- أصبح ممكنا أن أترك العيادة وأنزل إلى الشارع.... وكانت المفاجآت متتالية الشوارع التي عادة أسير فيها كلها مسدودة بحوائط من عساكر الأمن المركزي، قلت الأمر أوسع جدا إذن مما كنت أتصور.... رائحة الغاز المسيل للدموع تحرقني في أنفي وفي عيني وصدري يضيق بالرائحة، قلت أتجه إلى ميدان المنتزه وأحاول الخروج منه وقد كان لكن الرائحة كانت ما تزال تزيد في مناطق وتقل في مناطق دون خريطة واضحة.... وفجأة بعدما عبرنا كوبري العبور رأينا المتظاهرين على بعد 100 متر وقد تجمعوا في ميدان قريب من شارع "أبو نظارة".... حاولت الدخول لهم فجذبتني زوجتي وقالت ألا ترى أنك محمر العينين مسيل الدموع والمخاط وصدرك غير مستريح؟ تحججت لها بأني أريد فقط أن أصور المتظاهرين فقالت إذن ستتركني أسير وحدي وانطلقت في شارع جانبي مما أرغمني على اللحاق بها...... قلت لها هل تعرفين طريقا من هنا؟ قالت نعم لي خالة بيتها قريب....
مشيت معها وأنا ممتلئ ضيقا وألما.... غير أن الله أنصفني حيث فاجأتنا تظاهرة كبيرة تمشي في شارع "أبو نظارة" متجهة إلى المظاهرة التي رأيناها منذ قليل.... ولما وقفت ظلت تشدني فلما استجبت ومشيت قالت لمَ لم تأخذ صورة ألم تقل أنك تريد أن تصور المتظاهرين؟... وفعلا التقطت عدة صور بكاميرا المحمول دون كثير اهتمام بما يظهر فيها... ومشيت في اتجاه بيتي... ولاحظت أن رائحة الغاز المسيل للدموع موجودة أيضًا في منطقة سكننا وأن تظاهرة خرجت من هناك..... تأكدت عندئذ أنني ظلمت المصريين كثيرا.
ولما أزال أمام شاشة الجزيرة أتابع الأخبار المتلاحقة حتى بدأ الوجه السيئ لما يحدث.... بدأت الروايات عن استيلاء المتظاهرين على منطقة السويس ثم اختفاء الشرطة من القاهرة والإسكندرية، مبنى الحزب الوطني على كورنيش النيل خلف ميدان التحرير يتعرض للنهب ثم أن النار تشتعل في المبنى، ثم في المجلس الأعلى للصحافة، ثم محاولات سرقة المتحف المصري ثم أن شباب مصر يقفون درعا بشريا لحماية تاريخ مصر.... ثم أن معظم بلدان مصر تتعرض لعمليات نهب منظمة ولا أحد يعرف من يقوم بذلك...... ثم أنباء عن فرار مساجين من عدة مناطق في مصر.... ثم أنباء عن أن بعض من يقومون بالنهب هم من الشرطة السرية.... ثم أسمع أصواتا مرتفعة في الشارع الذي أقيم فيه! من الواضح أنهم يطاردون أحد اللصوص، وخرجت إلى الشرفة لأجد أن جماعة من شباب الشارع قد وقفوا موزعين على مداخل الشارع ومخارجه وقد أمسك كل منهم بعصا في يده،.... من هنا ومن هناك ظلت تأتي الاتصالات لتنبيهي أن علي تأمين بيتي وكان الغريب أو ما لم أفهمه حتى الآن هو أن معظم الاتصالات جاءتني من القرى وكلما سألتهم قالوا أن عربات إسعاف أو عربات شرطة دخلت القرية ونزل منها جماعة من البلطجية يسرقون وينهبون ويروعون الناس.... الشيء الغريب هو أن معظم القرى أو كلها لم تخرج فيها مظاهرات فلماذا يعاقبونهم؟ ومن يقف وراء هذا التشويه لثورة مصر الحقيقية؟
يتبع.............. : ساخن من مصر أيام الغضب الأحد1
واقرأ أيضاً:
ساخن من مصر: أيام الغضب الأربعاء/ ساخن من مصر: أيام الغضب الثلاثاء